بالنسبة لي لا أجد مجال للمقارنة بتاتًا بين طرفي السؤال. فأن تخسر حاسة مهمة من الحواس شيء، وأن تخسر سلطة مادية شيء آخر. ولو تركت الأمر لنفسي، فإني أفضل الاحتفاظ بكليهما وأرفض المساومة على أي منهما. فمن ملاحظاتي عن الفقدان المؤقت لحاسة الشم حال الإصابة ببعض الأمراض مثل نزلة البرد أو الإنفلونزا، التهاب الجيوب الأنفية، الحساسية مثل حمى القش أو حتى وجود الجيوب الأنفية، يؤدي أيضًا لحدوث تغيرات خفيفة وأحيانًا مفرطة في حاسة التذوق، أو حدوث تغيرات على كيفية تذوق الشخص للطعام.
فتجده يضيف المزيد من الملح أو السكر لطبقه أو كوبه، أو يشعر بمذاق مُرّ غير مستساغ للطعام. وهنا قد يلجأ الشخص لنبذ الطعام والابتعاد عنه. تخيل كل الروائح العطرة التي تمر على مخيلة أنفك؛ حيث أنني أؤمن بوجود ذاكرة شمية يصطنعها الأنف ويخزّنها داخل الدماغ. تخيل الرائحة اللذيذة للمخبوزات التي صنعت على أيدي الجدات والعاملين، تذكر الروائح الترابية في الحدائق وساعة نزول المطر والتي تُزكي الأنف بجمالياتها، تخيل الروائح العطرية للزهور والأشجار، وتأمل كيف يمكن لهذه الروائح أن تؤثر على عواطفك ونفاعلك مع العالم بشكل إيجابي نشط.
لا ننكر بوجود بعض الروائح الفظيعة والسيئة، إلا أن وجود هذه الروائح أيضًا تعمل العديد من التنبيهات للابتعاد عن هذه الأماكن، أو الحذر بوجود خطر؛ كما يحدث عند شم رائحة الغاز، أو تجنب التعامل مع هذه المواد بسبب قوة أو سوء رائحتها، كما أنها تكشف لك صلاحية المواد الغذائية من عدمها. تخيل لو كان هذا الفقدان دائم! تخيل فقدانك للذكريات التي خزنتها طوال السنين السابقة. رائحة والدتك عندما تحضنك، رائحة أول طفل لك، رائحة المحب، رائحة الكتب التي تفيح ثقافة. الآن تخيل أنك تستنشق من أنفك ولا تشعر بأي شيء على الإطلاق، فقط ملامسة الهواء لجسمك ووجهك.
أنت الآن في عالم خالٍ من الروائح. تخيل أن هذه هي حياتك لو اخترت أن تكون ضمن هذا العالم أو حتى لو تختر أن تكون كذلك عند إصابتك بالمرض. يقول الدكتور السندواني: "التأثير الأوسع نطاقا هو التأثير البشري والعاطفي لفقدان حاسة الشم. فالشم والذوق يسيران جنبًا إلى جنب، وهناك هذا التفاعل المعقد بين التجربة والعاطفة والذاكرة والشم والذوق."
أما بالنسبة للهاتف، الذي أعده مستودع أسراري. ففيه أكتب ملاحظاتي، وأحتفظ بيومياتي، وأنسخ بعض الاقتباسات التي تشعل الشرارة في نفسي. هاتفي هذا به بعض من ذكرياتي تتمثل بصور من أحب، ورسائل من أحب سواء كانت صوتية أو مكتوبة. هاتفي هذا يحمل في طياته أرقم أشخاصٍ وضعوا بصماتهم في السلم الزمني لحياتي، فمنهم من كانت بصمته رقيقة محبة، ومنهم من كانت بصمته إيجابية حماسية، ومنهم من كانت بصمته خلّقة تعليمية، ومنهم من كانت بصمته قاسية مؤلمة، ومنهم من كانت بصمته غدّارة قاتلة. تلك الرقام عندما أقلبها تعيدني لتلك الذكريات، وأرفع القبعات لكل بصمة تركت أثرٌا أيً كان. فمنها تعلمت وأدركت ووعيت أن الحياة وجوه تمر بك، منها ما يقلبك بين كفيّه، ومنها ما تقلّبه بين كفّيك، والخاسر من يسقط تحت تلك الأكّف.
أصبح الهاتف جزء لا يتجزأ من تركيبتنا، حتى وكأنه صقل معها وذاب بين ضلوعها ليصبح معها كتلة واحدة لا تتجزأ. هذا الجهاز الصغير؛ ذو التركيب المعقد، والتفاصيل الدقيقة، الذي يحمل الكثير الكثير من الأسرار التي لا يمكنني أن افضيها لأحد. قد يكون أحد أسراري أرقامي السرية لبطاقاتي، أو وصيتي بعد موتي، أو بعض من مشاعري الغاضبة التي لم أتمكن من البوح بها، أو حتى بعض المشاعر العابرة التي انتابتني عند تعرضي لموقف قد يكون بالنسبة للبعض نمطيًا واعتياديًا.
لذا لا أعتقد أنه من السهولة بوقت أو بمكان ما أن أخسر هاتفي. ولأكون صريحة أكثر، فحتى أجهزة الهواتف السابقة والتي انتهيت من استعمالها، لازالت لدي بالمنزل، ولم أتغلب على الرغبة بالاحتفاظ بها والقيام ببيعها، إذ ما زالت لدي في ذاك الدرج الصغير المنعزل الذي أقوم بزيارته بين الحين والآخر لأنظر لتلك الهواتف واختار منها ما أود الرجوع معه إلى ذكريات السنوات السابقة.
لكن، ومع كل ما ذكرت، وإذا تحتم علي الاختيار ما بين ما هو طبيعي وما هو صناعي، فبالطبع، سأختار خسارة هاتفي، إذا لا يمكن لأيٍّ بشر على وجه الأرض أن يعوضني خسارة حاسة ربانية، لا يمكن بأي زمان أو مكان أو حتى إمكانيات أن تعوض، وكفانا من فيروس كورونا واعظًا.