عندما كنت صغيرة كنت أحزن كثيراً عندما كنت أرى آباء صديقاتي يمازحونهن ويتحدثون معهن ويحضرون اجتماعات أولياء الأمور في المدرسة، فكان أبي جدياً إلى حد كبير، كما كان دائم الانشغال بعمله ويعطيه كل وقته؛ فلا أتذكر أنه كان يلعب معي أو مع أحد إخوتي عندما كنا صغاراً، أو أنه كان يحضر اجتماعات أولياء الأمور، حتى أنه ربما لم يكن يعلم في أي صف كنا! وكان التواصل بيننا يتم غالباً عن طريق والدتي؛ فإن أردنا الحصول على موافقته للرحلات المدرسية مثلاً كنا نخبر أمي لتخبره وتستأذنه وتأخذ توقيعه الخطي.
ولكنني صممت على أن أبني جسراً بيننا وبينه وأن نتقرب أنا واخواني منه لنجعله يتواصل معنا أكثر، وخصوصاً أننا نعلم مدى الحب الذي يكنه لنا، وقد نجحنا في بناء هذا الجسر - ولو أننا تأخرنا قليلاً- وقد تحسنت العلاقة بيننا أكثر وأكثر بعد ولادة أبناء اخوتي الذين حولوه لشخص آخر؛ فأصبح يظهر مشاعره أكثر.
أعلم أن مشكلتك أكبر من انقطاع التواصل بينك وبين أبيك - فهذا واضح من السؤال- ولكن دعني أشاركك تجربتي وأقدم لك بعض الحلول المقترحة... فبما أنك قد طرحت مشكلتك فهذا دليل أنك تسعى لتحسين علاقتك بوالدك، وأنك تعلم أن هذا الأمر في غاية الأهمية وأنه يؤثر عليك وعلى جميع نواحي حياتك كثيراً لدرجة لا يمكنك معها تجاهل الأمر.
لقد فهمت من سؤالك أنك تكره والدك لأنه يتمنر عليك ولأنه متحيز لأحد ما قد يكون أحد أخونك مثلاً، وأنك قد وصلت لمرحلة أنك كرهت الحياة بأكملها وأحياناً تقدم على إيذاء نفسك... أتمنى أن أكون قد فهمت السؤال بشكل جيد لكي أستطيع إفادتك، وإن كان فهمي للسؤال خاطئاً فأتمنى منك الرد بتوضيح أكبر، أو طرح سؤال جديد مفصل أكثر...
على أية حال... سأجيبك بصيغة عامة وأفيدك بتجربتي الشخصية، ولكن أريدك في البداية أن تتفق معي على نقطة أساسية وهي أنه لا يوجد أب في العالم يكره أبناءه، فحتى لو كان متحيزاً لأحد منهم فهذا لا يعني أنه يكره الباقين حتى لو بدا ذلك على تصرفاته. لكي أقنعك أكثر وأوضح لك الصورة... تخيل أنك لا تحب شكل عينيك مثلاً أو لونهما، فهل تلجأ لإيذائهما لعدم رضاك عنهما؟! بالتأكيد لا، فأنت لا تحتمل ألمهما لأنهما جزء منك... هذا هو تماماً ما يحصل مع أبيك، فحتى لو بدا أنه غير راضٍ عنك، فهو لا يحتمل رؤيتك تتألم وتؤذي نفسك جسدياً أو نفسياً، ولا بد أنه في صراع مع نفسه بسبب خسارته العلاقة الصحية بينه وبينك! فعليك أن تبني جسراً بينك وبينه وتصلح علاقتكما وأن تتسامح معه، بدلاً من أن تسقط سخطك عليه وعلى نفسك وعلى كل من حولك، وإن لم تستطيع فعلى الأقل تقبل الواقع واستمر في حياتك.
بالنسبة لي... فقد فهمت والدي أكثر عندما عرفت سبب بعده هذا عنا حين تعمقت في الأمور النفسية وفي المواضيع العائلية ومواضيع الذكاء العاطفي، فقد اكتشفت أن السبب في بعده عنا عاطفياً واجتماعياً كان بسبب أسلوب تربيته؛ فقد كان الابن الوحيد لوالديه ولديه أختان، فكان والداه يميزانه في المعاملة كثيراً وخصوصاً والدته، كما تربى على عدم البوح بمشاعره فهو يعتبر أن إظهار الحب أو العطف مثلاً يعتبر نوعاً من الضعف أو نقص الرجولة! وأن الرجل لا يجب أن يجلس مع أسرته لأن عليه أن يعمل طوال النهار ليؤمن لأفراد أسرته لقمة العيش ويبقى مشغولاً طوال اليوم لأجلهم.
عندما فهمت هذا تفهمت تصرفاته، فقررت أن أقترب أنا منه بدلاً من أن أبقى بعيدة وأن آخذ موقفاً منه، فأصبحت أعرض عليه مقالاتي التي أكتبها وآخذ رأيه فيها وخاصة أنه متخصص في اللغة العربية وعلم المكتبات وقد أسس مكتبات عدة جامعات أردنية، وأحياناً كنت أصنع له الحلويات التي يحب وأشتري له الهدايا وأرسل له رسائل على هاتفه الخلوي، وأدافع عنه عندما يشتكي اخوتي من بعده عنا، وعندما حصلت ظروف معينة مع خالي وعاش في بيتنا لمدة أشهر تقربنا من خالي كثيراً؛ فهو حنون ومرح جداً، يبدو أن هذا الأمر قد أثار غيرة أبي أيضاً وجعل علاقته تتحسن معنا، ولما تزوجت أختي وأخي وأنجبوا أطفالاً قد ساعدنا هذا أيضاً على تقليص الفجوة بيننا بينه قأصبح أقرب منا.
هذه كانت ملخص تجربتي مع أبي والتي أحببت إفادتك بها... كما أود أن ألفت نظرك لعدد من الأمور التي قد تساعدك:
- ابحث عن السبب الذي جعل هذه العلاقة متعكرة، فخض في ماضيه؛ فهل عانى من مشكلات عائلية أم أنه ضحية الدلال الزائد أو الإهمال الزائد، أم أنه تعود على مثل هذه العلاقة من خلال النماذج الأبوية التي شهدها في حياته. أو قد يكون هناك مشكلات أسرية بينه وبين والدتك أو بينه وبينك أنت شخصياً؛ حاول جاهداً أن تعرف لماذا يتنمر عليك ويتحيز لأحد إخوتك، فهل هناك شيء ما غير محبب في شخصيتك وهو يستفزك لتغييره لتكون لأفضل أم أن هناك سبب آخر؟! أنا لا أخلق له الأعذار طبعاً، لكن معرفة السبب هو نصف الحل لأي مشكلة.
- اكتب نقاط قوته على ورقة، فقد يكون متنمراً عليك ومتحيزاً ضدك لكنه لا يحرمك من شيء، أو يحترم قراراتك... عندها سترى أنه ليس سيء بنسبة 100%، وسيبدأ عقلك يستوعب هذا.
- حاول أن تحسن علاقتك به من خلال عدم مجادلته، فافتح الموضوع معه وصارحه بما يضايقك، ولكن لا تنتظر منه الاعتراف بخطئه أمامك، واسأله عن أحواله وتعلم منه وحاول الدخول إلى عالمه لتعرف ماذا يحب وماذا يكره، فإن كان يحب كرة القدم فاشتر له تيشيرت فريقه المفضل واشتر له المأكولات التي يحبها، وامدحه أمام الناس...
إن لم تتحسن العلاقة بينكما...
- تقبل هذا الواقع، ولا تجعل نفسك تدفع الثمن؛ فلا تؤذِ نفسك للفت انتباهه أو حتى رغبة منك للهروب من هذا الواقع ومن هذا الأذى النفسي، ولا تتلذذ بلعب دور الضحية لأنك ستكون الخاسر الأكبر.
- انتصر على نفسك وسامحه سواء تحسنت علاقتكما أو لا، فلا تدخل في حرب الكراهية والغضب، فهذا يؤثر عليك أنت أولاً ويتسبب لك بالأمراض والمشكلات الاجتماعية والمهنية والعاطفية والنفسية... فأنت لا تستطيع التحكم به لكنك تملك زمام الأمور للتحكم بنفسك، وأنت تستحق أن تعيش بسلام وألا تندم يوماً ما على ما حصل.
- حضّر نفسك عاطفياً للمواقف التي تتطلب وقوفه معك فها كالأعياد والمناسبات الاجتماعية ويوم زفافك ويوم نجاحك، لتقلل الألم العاطفي المتوقع.
- حاول أن تعوّض نفسك بما عندك... فصحيح أن والدك ليس جيداً كما يجب لكن لديك أماً عظيمة في المقابل، أو قد تكون ناجحاً في عملك...
- أشبع حاجتك لوجود الأب في حياتك من خلال عمك أو خالك أو معلمك... لكن عليك اختيار شخص موثوق طبعاً.
- اعلم أن عقلك الباطن يتشرب النموذج الأبوي منه حتى لو كان يعلم أنه نموذج سيء؛ فلا تعط الموضوع أكبر من حجمه من التفكير حتى لا تجد نفسك تعامل أبناءك بنفس أسلوبه؛ فالطفل الذي رباه أبوه بقسوة وكان يسيء معاملته يكبر ليعامل أبناءه بنفس هذه الطريقة بالرغم أنه كان يكرهها ويتألم منها! فهكذا يعمل العقل الباطن!
أتمنى أن تحاول تطبيق هذه الأمور وأن تتواصل معنا وتسألنا كل ما يخطر ببالك لنعمل جاهدين على مساعدتك.