يعيش الناس الآن طفرة فكرية، ويستعملون مصطلحات لا علم لهم بخلفياتها والبيئة التي نشأت فيها، ويستهلك المسلمين هذه المصطلحات من غير ضوابط. فبعض المسلمين يعتقد أن الحرية مطلقة إلى ما لا نهاية ولا قيد، تحت مسمى التنوع الفكري ولو على حساب الدين والخلق إلا أن حرية الفكر والتعبير في الإسلام عليها ضوابط.
من وجهة نظر الدين الإسلامي، فإن الكلمة أمانة، لأن الشخص المكلف، مؤاخذ بما ينطق به ومحاسب على كلامه، "إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا"، "بلى ورسلنا لديهم يكتبون"، "ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد".
فيرى المسلم أن هذا هو منشأ الفوارق وجوهرها بين ما أتت به شريعة الإسلام وبين ما لدى غيرها من الشرائع. فالكلمة عنده أمانة ولا تصح إلا أن تكون قول صدق وحق ودعوة إلى فضيلة ورسالة خير في المجتمع، أمرا بالمعروف أو نهيا عن المنكر، أو موعظة حسنة، أو نصيحة، أو مشورة رأي، ولا يصح أن تكون غيبة أو نميمة أو سعيا في الأرض فسادا، أو أن تكون سببا للفرقة والخصومة والنزاع، أو أن تكون عدوانا على عرض مصون، في دمه ونفسه وماله، أو أن تكون قذفا لبريء، فهذه الضوابط، جعلت الكلمة بالغة منزلة عظيمة.
أما الظن أن حرية التعبير تعني أن يقول المرء ما شاء، وإن يدعي ما شاء، وأن يخوض في أي أمر وأن يتكلم بالسوء في أعراض الناس، وأن يلوك بلسانه التوافه من اللغو الذي لا فائدة فيه، فإن هذا ليس مما يقبله الإسلام.
"المسلم من سلم الناس من لسانه ويده" ووصف الله تعالى الأتقياء بقوله "وإذا مروا باللغو مروا كراما" لا يخوضون في اللهو من الحديث ولا يشاركون في المنكر من الأقوال، ومن باب أولى أنهم ينهون عن الفساد، ولا يشتركوا في الباطل، فهذه هي حدود التعبير بالكلمة في دين الإسلام.
وأما عن حرية الإنسان في أن يكتب ما يشاء، كأن يوجه نقدا لشخص معين أو لمجتمع معين أو لتركيبة فكرية معينة، فيواجه نوعا من المحاصرة والمنع، وهو يرى أن في ذلك مصادرة لفكره وحريته في التعبير، ففي ضوابط الدين الإنساني يسمح للإنسان أن يأخذ حريته إلى حد معين، فلا ينتقد الآخرين ويكتب عنه ولا يقول إلا ما يراه حقا من خلال ما لديه من فكر ومعرفة. فالكلمة المكتوبة أعظم أمانة من الكلمة الشفوية التي يلقيها الشخص دون كتابة، مما يعني أن مسؤوليته حين تكون كلمته مكتوبة أعظم، فعليه أن يتثبت أولا وأن يتبين الكاتب صدق ما يريد أن يكتبه وحقيقة أمره ثم لينظر فيما يريد أن يكتب، أهو من النصح والدعوة إلى الخير أم أنه لا يتسم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم لينظر في أن تكون كلمته مبينة على الموعظة الحسنة والقول الجيد، فقال الله تعالى "وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن" ويقول " وهدوا إلى الطيب من القول" ويقول "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة"، والمسلم لا يكون فاحش القول ولا بذيء اللسان، والرسول صلى الله عليه وسلم بين هذه الأخلاق، والتزامها في نفسه، وعلمها لأصحابه الكرام رضوان الله تعالى عليهم، وأمته من بعدهم، فإذا ما تحققت تلك الشروط، لا ينبغي أن تضيق الصدور بقبول الحق، ولا ينبغي أن يهمل ما يدعو إليه الناس من أمر خير وصلاح ومكافحة لفساد أو باطل، وكما أن الكلمة المقولة تسمع، وينظر إليها، كذلك الكلمة المكتوبة ينبغي في الإسلام أن تعامل كذلك، طالما تحققت هذه الشروط والتزمت بهذه الآداب.
أما أن يكون القول المكتوب تجريحا لناس، وتصفية لحسابات ومراعاة لمصالح شخصية أو بعثا لفتن في المجتمع أو نشرا لعصبيات مقيتة جاهلية، أو أن يكون القول بعيدا عن الصواب وعن التثبت والصدق، أو أن يكون مما لا يصلح أن يطلع عليه عموم الناس، وينبغي أن يكون في دوائر مخصوصة ضيقة، لما يتعلق بآثار مجتمعية أو عائلية أو أمنية أو يتعلق بسيادة وطنية، فإن هذه الاعتبارات مرعية في الشريعة الإسلامية، ويقول الله تعالى في القرآن الكريم: "وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به، ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ" فهذه هي الضوابط والحدود العامة التي ان التزم بها المسلمون، فإن الكلمة المنطوقة كانت أو مكتوبة يمكن أن تحدث أثر الخير والصلاح والهدى والرشد في المجتمع، ويمكن بالالتزام بها أن نقلل من آثار ما نلحظه أيضا في كثير من المجتمعات اليوم، من بعث لأسباب العصبيات المقيتة وأسباب التحزبات والفتن وما يؤدي إلى النزاع والشقاق لفقدان الالتزام أو عدم العلم أصلا بهذه الآداب والضوابط.
وعندما يقرأ الإنسان واقع الحياة والمعيشة التي كتب عنها الفلاسفة والمفكرون، وأعطوا نفسهم الفرصة الكافية في النقد وحرية التعبير نجد أنهم يسمحون لأنفسهم أن ينتقدوا الآخر وأن يكتبوا عنهم، ولكن حين تعود المسألة إليهم إلى نقد ذواتهم والى من يتسلط على كتاباتهم بالنقد، فإنهم يثورون ويرعدون، ومن الأمثلة على ذلك، فلاسفة التنوير في أوروبا بينهم صراع كبير جدا فيما يتعلق بحرية التعبير، وينادون بأن يكون هناك حرية للتعبير ولكن عندما يتعلق الأمر بهم فإنهم يثورون كما حصل بين جنجاه روسو وفولتير، وقد ذكر ذلك ويل ديورانت في كتابه "قصة الحضارة"، وأيضا بيرتراند راسل في كتابه "العالم كما أراه" فهو يدعو فيه إلى حرية التعبير إلا أنه نفسه وقع في ذات المشكلة.
وإذا عدنا إلى المؤلفين المسلمين، الذين ينسبون أنفسهم أيضا إلى عصر التنوير، كالرافعي وطه حسين والعقاد، بينهم أيضا نرى صراع شديد فيما يتعلق بأمر نقد كل أحد منهم للآخر وعلى ما يتمتعون به من قدرات علمية. فإذا كانت هذه هي القدوات وأدت بهم إلى هذا النوع النسبي من حرية التفكير، فهو بسبب أنهم لم يتبعوا الشخصيات الإسلامية كالرسول صلى الله عليه وسلم، واتخذوا من الغربيين قدوة لهم، فالقرآن الكريم واضح في الدعوة إلى قبول الحق ممن جاء به، وإلى نبذ الانتصار للنفس استجابة إلى داعي الهوى، وحب الذات، ويؤكد أن الحق أولى أن يتبع، ويكون هوى الأنفس تبعا للحق. يقول تعالى " لا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله"، فيجب أن لا يتحول الحوار إلى انتصار للنفس وتغليب للرأي وتغلب على الآخر، فتضيع الحقيقة في هذا الخضم من الصراع الذي دفعته الأهواء والمصالح.