بالتأكيد إن طريقة تفكير الأطفال تختلف عن طريقة تفكير الكبار بعدة أمور، ومنها التفكير بالأحكام الأخلاقية. فالطريقة التي يفكر فيها الطفل ابن السبع سنوات تختلف عن الطريقة التي يفكر بها نفس الطفل عندما يبلغ عمر الحادية عشرة سنة، والتي أيضا بدورها تختلف عن محاكمتك الأخلاقية انت بالموضوع.
بعض علماء النفس أولو الموضوع جل اهتمامهم ودرسوه، وأهم ما وصلوا إليه بهذا الخصوص هو مراحل النمو الأخلاقي عند العالم الأمريكي لورنس كولبرج.
عالم النفس كولبرج كان يحب أن يطور المفاهيم القديمة المسبقة عن مراحل النمو الأخلاقي، والتي توصل إليها علماء من قبله مثل العالم جين بياجيه، فأحضر عدد من الأطفال وطرح عليهم سؤالا، ولم يكن مهتما فقط بالإجابات المباشرة، بل اهتم بعمل مقابلات مطورة مع الأطفال ليسألهم فيها عن نصوص سينمائية مختلفة، وليسمع منهم إجابات تشمل تفاسير من الأطفال إجاباتهم، وذلك ليتمكن أكثر من فهم الطريقة التي يفكر بها الطفل في المسائل والأمور المطروحة عليه.
وعلى ذلك قام بمتابعة ومراقبة نفس الأطفال الذين طرح عليهم الأسئلة وقابلهم، وذلك لمعرفة التطورات التي تحدث في طريقة تفكيرهم خلال نموهم من ناحية نظرتهم الأخلاقية للأمور، وهكذا توصل كولبرج إلى نتيجته في مراحل النمو الأخلاقي للأطفال، والتي قسمها إلى ثلاثة مستويات عامة، ولكل مستوى منهم مرحلتين فرعيتين.
وفقا لنموذج كولبرج فإن الإنسان خلال حياته يتدرج في مرحلة تلو الأخرى بنفس الترتيب الذي سأذكره لك:
المستوى الأول - هو المستوى قبل الأخلاقي:
والمرحلة الأولى من المستوى الأول اسمها الطاعة والعقاب.
ويكون مقياس الأطفال فيها تمييز الصح من الخطأ بحسب إذا كان الفعل يؤدي إلى عقوبة أم لا، بغض النظر عن مصدر العقاب، سواء كان من السلطة الإلهية، أو البشرية أو غيرها. فأغلب الأطفال مثلا يعتبرون قيام الفقير بسرقة الدواء لعلاج زوجته المريضة جدا، أمرا لا أخلاقيا، لأنه سيتم اكتشاف السارق وسيعاقب. إذا الأطفال في هذه المرحلة يفكرون في تجنب العقاب، وهو أمر يفكر فيه الأطفال الذين لم تتجاوز أعمارهم العشر سنوات.
المرحلة الثانية من المستوى الأول اسمها الفردانية والتبادل.
وهنا يبدأ الأطفال بفهم أن في النص السينمائي الواحد، لكل فرد وجهة نظر مختلفة عن باقي الأفراد، ولكل شخص منظور مختلف، ولا توجد وجهة نظر واحدة ثابتة ومنزلة من السلطة العليا كما كانوا يؤمنون في المرحلة السابقة.
وفي هذه المرحلة يبدأ الأطفال بالتفكير على أساس المصالح الشخصية. وحتى عندما يتحدث الأطفال في هذه المرحلة عن عقاب معين، فهم لا يتحدثون عنه على أنه نتيجة القيام بخطأ ما، بل هو لأمر يجب عمل حساب له وتجنبه حماية للمصلحة الشخصية والفردية، ومن مميزات هذه المرحلة هو توجه الأطفال نحو التبادلية، أو ما يسمى بالتبادل العادل. وتلاحظ معي أن الطفل حتى هذه المرحلة لا يزال يفكر بالأمر من ناحية القيم، ولم يصل لمرحلة التفكير في المجتمع وتوقعاته، وما زالت الأخلاق بالنسبة للطفل أمر خارج عنه، وهي ما يعرفه ويقوم به الكبار والبالغين.
المستوى الثاني هو مستوى الأخلاق التقليدية
المرحلة الأولى من المستوى الثاني، وهي تنص على التوافق والاتفاق بين الناس
ويصل لها الإنسان في عمر المراهقة تقريبا، وهنا أصبح هذا الشخص فردا من المجتمع، ويهمه أن يحظى بالرضا وأن يكون شخصا جيدا في نظر عائلته وفي محيطه، لأنه يسلك حياته وفق الأعراف، ووفق ما هو مرغوب به اجتماعيا، وما هو متوقع من الشخص الجيد.
ويكون التركيز الكبير هنا على النوايا والدوافع والمشاعر المرتبطة بالعلاقات الإنسانية.
المرحلة الثانية من المستوى الثاني، تختص بموضوع السلطة والحفاظ على النظام الاجتماعي Social Order
وهنا طريقة التفكير تقول أن القوانين والعادات والتقاليد الاجتماعية موجودة لضمان تماسك المجتمع وبدونها تحصل الفوضى، والمبدأ هنا لا يرتبط بالعقاب كما في المستوى السابق، إنما هو مرتبط بالنظام الاجتماعي الذي يعيش فيه الفرد، وهو أمر لا يستطيع استيعابه الأطفال الصغار.
ومن الجدير بالذكر أن كولبرج حدد أن أغلب البالغين ينتمون للمستوى الثالث أو الرابع، وقلة قليلة جدا هم من يصلون إلى آخر مستوى من الأخلاق، أي المستوى الثاني من المرحلة الرابعة.
المستوى الأخير الرابع
المرحلة الأولى منه تتحدث عن مرحلة التوجه الحقوقي والعقد الاجتماعي.
لأنه لا يكفي للمجتمع أن يسير بشكل منظم فقط، لنقول عنه أنه جيد أخلاقيا، فالشخص في هذه المرحلة قادر على الخروج ذهنيا خارج حيز مجتمعه ليقوم بالتفكير بشكل منفرد ونظري عما يخص المجتمعات والقيم والحقوق، فهو هنا ليس مع كسر القوانين التي يمكن الاتفاق عليها، بل العكس، يجب المحافظة على المادة القانونية ولكن ليس بتغليظ العقوبات. أي أن الشخص في هذه المرحلة يقوم بجهد فردي للتوصل إلى القيم التي يجب أن يتحلى بها مجتمعه.
المرحلة الثانية من المستوى الرابع، والأخيرة بين كل المراحل واسمها مرحلة الضمير والمبادئ الكونية العامة Universal Principles
هي مرحلة فيها إشكالية اكتشفها كولبيرج نفسه، وبالتالي قام بإلغائها لاحقا واعتبارها نظرية رغم إصراره على وجودها، فالمشكلة تكمن في أنه لم يجد أشخاصا يمتلكون هذا المستوى من الأخلاق والتفكير على نحو ثابت ومستمر في جميع إجاباتهم. لكن عموما، تسمى هذه المرحلة المبادئ العامة أو المبادئ الفردية للضمير، وتكون عند الفرد هذه المبادئ متناسقة، ويكون قادر على التفكير فيها على مستوى مجرد، ويقلبها من عدة مستويات، وتولد فيه ضميرا ووازعا بحيث يكون متحفزا لمواجهة القانون المتفق عليه ديموقراطيا إذا كان في نظره أن هذا القانون لا يرقى ولا يتطابق مع قيم العدالة.
ويعتبر مارتن لوثر كينج جونيور أشهر من وصل إلى هذه المرحلة من القيم الأخلاقية
لو فكرت قليلا في عدد مسائل الرياضيات أو الفيزياء التي قمت بحلها خلال حياتك، أسبوعيا خلال سنوات الدراسة وحتى مرحلة الدراسة الثانوية، وأكثر لو قمت بالتخصص بالثانوي العلمي، وحسب دراستك في الجامعة فقد تكون قد حللت مسائل أكثر بكثير. قارن بين أول مسألة رياضيات أو فيزياء قمت بحلها وآخر مسألة، وكم الفرق الهائل في التعقيد بينهما، وكيف أن عقلك متدرب على حل المسائل وتطور تدريجيا مع الوقت، كذلك ينطبق هذا الكلام على الجميع، حتى الذين لم يستمتعوا في دراسة المواد العلمية، إلا أن الجميع قد تطور خلال المراحل الدراسية.
كذلك التطور في الأمور الأخلاقية، فعقلنا تدرب عليها بنفس الكيفية التي تدرب فيها على حل المسائل، فمن خلال حل المسائل الأخلاقية خلال المراحل العمرية المختلفة، يتم تطور الأخلاق أيضا.