- يعد الرثاء من الفنون الأدبية التي مرت عبر عدة مراحل وعصور وصولاً إلى العصر الأموي فوَّاحًا ناضجًا مُضيفًا إلى الثروة اللغوية تجديدًا وفرادةً، و انكمش الشعر وأغراضه في فترة ما قبل العصر الأموي، إلّا أنّ الرثاء ازداد في العصر الأموي وتوسعت أبوابه فاتبع الشعراء طرقاً واساليب في فنون الشعر منها ما هو جديد حسب ظروف حياتهم ومنها ما قديم امتداداً للعصر الجاهلي، و بقي فن الرثاء على حاله بالعصر الجاهلي والإسلامي، إلا أنّ الشعراء بالعصر الأموي قاموا بإضافة إضافات جديدة عليه حتى جعلوه غرضًا مستقلًا بكيانه، مثل رثاء الخلفاء والقادة وأصحاب الشأن من الدولة وهذا الفن عُرف بالرثاء السياسي.
إضافة لانتشار ظاهرة التكسب بالشعر في هذا العصر، وبسبب هذه الظاهرة فإن فن الرثاء قد بدأ تدريجيًا يفتقد الإخلاص والصدق وحرارة المشاعر؛ لأنه كان رثاءًا عادياً بغاية الطمع بالمال والمكاسب، فلم تكن المشاعر جياشة وصادقة إلّا ان كان المتوفّى شخصاً قريبًا من الشاعر كزوجته أو ابنه أو حتى حبيبته، او ان كانت شاعرة مثلما رثت ليلى الأخيلية حبيبها توبة بن الحمير.
- قصائد الرثاء في العصر الأموي
يوجد الكثير من قصائد الرثاء في هذا العصر، منها ما كان مُتَكَسّبًا به بالمال، ومنها ما كانت تضج بمشاعر الألم والحزن والحسرة، وكان الأخطل وليلى الاخيلية وجرير والفرزدق من أشهر الشعراء الذين برعوا في فن الرثاء في العصر الأموي، وفيما يأتي نماذج من شعر الرثاء في العصر الأموي:
-يقول الفرزدق في رثاء أبي حرب:
نعى لي أَبا حَربٍ غَداةَ لَقيتُهُ
بِذاتِ الجَوابي صادِراً أَرضَ عامِرِ
فَقُلتُ أَتَنعى غَيثَ كُلِّ يَتيمَةٍ
وَأَرمَلَةٍ وَالمُعتَفينَ الأَفاقِرِ
لِيَبكِ عَلى سَلمٍ يَتيمٌ وَبائِسٌ
وَمُستَنزَلٌ عَن ظَهرِ ساطٍ مُثابِرِ
تَداعَت عَلَيهِ الخَيلُ تَحتَ عَجاجَةٍ
مِنَ النَقعِ مَعبوطٍ عَلى القَومِ ثائِرِ
وَمُستَلحِمٍ يَدعو كَرَرتَ وَراءَهُ
كَتَكرارِ لَيثِ الغابَتَينِ المُهاصِرِ
وَكَم مِن يَدٍ يا سَلمُ لا تَستَثيبُها
نَفَحتَ إِلى مُستَمطِرٍ غَيرِ شاكِرِ
-وقالت ليلى الأخيليّة في قصيدك رثاء حبيبها وابن عمّها توبة بن الحمير:
أيا عين بكّي توبة ابن حميرِ
بسح كفيض الجدول المتفجرِ
لتبك عليه من خفاجة نسوة
بمَاء شؤونِ العَبْرة المُتَحَدِّرِ
سَمِعْنَ بَهْيجَا أرهقَتْ فذكَرْنَه
ولا يَبْعَثُ الأحزانَ مِثلُ التَّذَكُّر
-وقال الشاعر جرير في رثاء الشاعر الفرزدق:
لِتَبكِ عَلَيهِ الإِنسُ وَالجِنُّ إِذ ثَوى
فَتى مُضَرٍ في كُلِّ غَربٍ وَمَشرِقِ
فَتىً عاشَ يَبني المَجدَ تِسعينَ حِجَّةً
وَكانَ إِلى الخَيراتِ وَالمَجدِ يَرتَقي
فَما ماتَ حَتّى لَم يُخَلِّف وَرائَهُ
بِحَيَّةِ وادٍ صَولَةٍ غَيرَ مُصعَقِ