عن أبي عبد الله النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه. ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله. وإذا فسدت فسد الجسد كله: ألا وهي القلب» (رواه البخاري ومسلم).
هذا حديث صحيح ثبتت روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأجمع أهل العلم على عظم هذا الحديث وعظم موقعه وكثرة فوائده، وأنه أصل من أصول الشريعة الإسلامية التي ينبغي تعلمها من قبل كل مسلم، لما فيه من الفوائد الجمّة، منها: تقسيم الأمور في الشريعة الإسلامية من حيث حلّتها وتحريمها وما هو بين ذلك، والحث على اتقاء الشبهات وأهمية ذلك للمسلم، وغيرها من الفوائد العظيمة في ذلك.
أما تفسير الحديث:
" إنّ الحلال بيّن وإنّ الحرام بينّ، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهنّ كثير من الناس"
تقسيم الأشياء إلى ثلاثة أقسام، وهي:
الحلال: بمعنى الحلّ أو الإباحة وهو الشيء أو العمل الذي لا يثاب فاعله ولا يأثم تاركه.
وهنا إذا قرن المسلم أعماله المباحة بنيه طيبة حسنة ابتغاء وجه الله فإنه يؤجر على فعله، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ). سورة البقرة: 168، وهنا نستذكر القاعدة الفقهية: (الأصل في الأشياء الإباحة)، أي أنّ أصل الأمور في حياتنا أنها مباحة لنا، إلّا ما جاء دليل بتحريمها فتعتبر محرّمة.
من الأمثلة على المباحات: شرب الماء، أكل ما أحلّ الله لنا من الطيبات ولحوم الحيوانات المباحة لنا، السفر، التنزّه، التجارة وكسب المال، وغيرها الكثير.
الحرام: هو الشيء أو العمل الذي يؤثم فاعله ويثاب تاركه، إذا امتثل في تركه إلى أمر الله تعالى في تحريم هذا الأمر.
قال الله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ). سورة الأعراف: 33
ومن الأمور المحرمة: شرب الخمر، أكل مال اليتيم، السرقة، الزنا، الربا، أمل الميتة المحرّمة، وغيرها.
المشتبهات: الشيء الذي التبس أمره، أي غير واضح الحرمة أو الإباحة، هل هو من الحلال أم من الحرام، ولا يعلم الحكم فيها إلا أهل العلم، باستنادهم إلى نص شرعي أو اجتهاد أو قياس.
(فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام..)
حكم الشخص الذي لا يعلم حكم هذه الأمور أن يتوقف عنها، إلّا بعد فتوى أهل العلم في ذلك، لأنه إذا تساهل الإنسان فيها من غير علم فإنها تجرّه إلى الحرام، ومن يقع في الشبهات كأنه يقع في الحرام، وبالتالي يقع عليه العقاب من الله عز وجل -والعياذ بالله-.
(كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه)
أي كما لكلّ حاكم أو ملك حماية وحدود، إذا تعداها شخص فإنه يقع عليه العقوبة من هذا الحاكم.
فإن لله تعالى حمى ألا وهي محارمه، فإذا تعدّى الإنسان على محارم الله تعالى فقد يوشك أن يقع به عذاب الله.
(ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله. وإذا فسدت فسد الجسد كله: ألا وهي القلب)
المراد بالمضغة هنا القلب، ولأن قلب الإنسان يولد على حب الشهوات وحب المال والأنا، يولد على الكثير من العادات التي ان أطلق نفسه لها كانت سببًا في هلاكه في الدنيا والآخرة.
لذا، إذا هذّب الإنسان قلبه وخلّص نفسه من التعلّق بأمور الدنيا، إذا علّق قلبه بالله أولًّا، ثمّ علقه بحب رسوله صلّ الله عليه وسلم واتباع سنّته، ثمّ إذا علق قلبه بالآخرة وعمل لها وانشغل بأمور آخرته عن أمور دنياه الزائلة، إذا فهم حقيقة الدنيا حقًّا وربّى قلبه تربيةً إيمانية صحيحة كما يحب ربّنا ويرضى، فإننا يمكننا القول أنّه أصلح قلبه وبالتالي تنصلح دنياه وآخرته.
أعاننا الله على اتباع ما يرضي الله، وجنّبنا وإياكم الشبهات وأصلح قلوبنا وقلوبكم.