هل تبادرت إلى ذهنك يومًا الأسئلة التالية:
ما السبب الذي يدفع سرب من الطيور إلى الطيران على شكل حرف (V)؟
ما الظروف التي أدت إلى نجاح وادي السيليكون في عالم الأعمال التقنية؟
هل النموذج البيروقراطي هو النموذج الأمثل لبناء المنظمة؟
تكمن الإجابة في نظرية التعقيد، وهي إحدى أهم النظريات في دراسات التخطيط العمراني وتخطيط المدن، ولها الكثير من التطبيقات في المجالات الأخرى، فما هي؟ وما العوامل التي تؤثر عليها؟
تتيح لنا نظرية التعقيد فهمًا أفضل للأنظمة على اختلافها وتنوعها، مثل عالم البشر والأنظمة البيئية للغابات والمنظمات الحكومية والخاصة، والتي لا تفهم عادة إلا جزئيًا عبر وسائل علمية تقليدية. وعلى الرغم من أنها ما زالت علمًا ناشئًا، فإنها تنخرط في مجالات متنوعة في الفيزياء والأحياء والعلوم الاجتماعية، ولديها انعكاسات كبيرة على الكيفية التي نفكر بها ونتصرف في العالم حولنا.
تحمل نظرية التعقيد أهمية كبيرة في دراسة المنظمات والتغيير التنظيمي والقيادة، حيث تقدم نظرات متعمقة على مسيرة المنظمات نحو الاستدامة والتكيف والابتكار.
سنستعرض في الفقرات التالية أصول النماذج البيروقراطية والميكانيكية للمنظمات والقيادة، بالإضافة إلى تطور علم التعقيد والانعكاسات المترتبة على النقلة النوعية من نموذج تنظيمي إلى آخر.
النظرة الميكانيكية إلى العالم
بين الأعوام 1500 و1700، حدثت تحولات هامة وكبيرة على الطريقة التي ينظر بها الأوروبيون إلى العالم ويفهمونه، وبفضل مفكرين مثل فرانسيس بيكون وجاليليو جاليلي وجوهانس كيبلر ورينيه ديكارت وإسحاق نيوتن، شهد العالم الغربي ثورة علمية أدت بدورها إلى تغيير نظرتنا إلى العالم، إذ كانت محكومة بالكنيسة واللاهوت المسيحي والأخلاقيات، ثم أصبحت نظرة أكثر مادية وميكانيكية محكومة بقوى الطبيعية والرياضيات.
من هو رينيه ديكارت؟
رينيه ديكارت – فيلسوف رائد وعالم رياضيات، مهد الطريق نحو رؤية تفكيرية جديد. واعتمد منهجية تحليلية مستندة على تحليل المشاكل إلى مكونات أصغر وحلها وتنظيمها في ترتيب منطقي، وأصبحت هذه المنهجية بصمة أساسية للتفكير العلمي الحديث.
آمن ديكارت بإمكانية فهم الكون ووصفه من منظور القوانين الرياضية والعلاقات المنطقية، وانعكست هذه الرؤية على أعماله في الهندسة التحليلة واستخدام الجبر لوصف الأشكال الهندسية.
بعد أن طور ديكارت ذلك الإطار المفاهيمي، أكمله الفيزيائي إسحاق نيوتن، فطور نظامًا رياضيًا شاملًا يجمع بين أعمال كوبرنيكوس وكبلر وجاليليو وديكارت.
ثم أصدر نيوتن نظرته العالمية في عام 1687 عبر كتابه "Mathematical Principles of Natural Philosophy" وجمع فيه بين الملاحظات المؤسسية للظواهر الطبيعية التي أشار إليها بيكون والمبادئ التحليلية لديكارت.
رسمت الفيزياء النيوتونية والرياضيات معالم النظرة الجديدة للعالم ولاقت نجاحًا في نطاق واسع من المجالات العلمية والتقنية بين القرنين التاسع عشر والثامن عشر، ما ولد حماسًا كبيرًا في أوساط العلماء والعموم. ناهيك عن أنها أرست قواعد الثورة الصناعية.
تحت وطأة الثورة الصناعية وفي ظل تلك النظرة الميكانيكية والجامدة إلى العالم، أصبحت لدينا مبررات علمية لاستغلال مصادر الطبيعية والاستفادة منها، وكان للثورة أثرًا عميقًا على الثقافة الغربية والنهضة على مدى 300 عام وحتى يومنا هذا، فما زالت افتراضات العالم النيوتوني ومناظيره تهيمن على أفكارنا ونماذجنا الفكرية في جميع المجالات.
واحتلت النظرة الميكانيكية إلى العالم مكانة بارزة في علوم الإدارة والتفكير التنظيمي خلال الثورة الصناعية. فأصبح العمل متسمًا بطبيعية روتينية ومتخصصة سعيًا إلى رؤية أكثر كفاءة وموثوقية ودقة وتنظيمًا للمنظمات. ومن خلال هذا المنظور، تشكلت المنظمات وأصبحت ملكًا لأطراف خارجية، وأصبحت بنيتها وأهدافها مصممة بالإدارة، فضلًا عن أن سياساتها مفروضة بهرمية وبيروقراطية.
وكان عالم الاجتماع ماكس ويبر من القرن 19 من أوائل من اكتشفوا الرابط بين الميكنة (mechanization) والبيروقراطية والروتين للحياة البشرية والعمالة وتلاشي المعنى والهدف من العمل.
وعليه، نعيش اليوم حقبة المعرفة وفي مجتمع ما بعد صناعي حيث أصبحت أوجه قصور النهج الميكانيكية وسيئاته في المنظمات واضحة بجلاء، ما يتطلب منها تبني منظور نظري جديد ومجموعة من الأدوات المفاهيمية، وهنا أتى دور نظرية التعقيد.
نظرية التعقيد (Complexity Theory)– الأصل، المبادئ، والانعكاسات
إذ انبثقت نظرية التعقيد ومبادؤها في أواخر القرن العشرين، وضمت الأعمال التالية:
1- إيليا بريغوجين ودراسته للبنى التبديلية في التوازن الترموديناميكي.
2- أعمال لورينز في دراسة أنظمة الطقس والمسارات غير الخطية (تأثير الفراشة).
3- نظرية الفوضى وأفرعها في الرياضيات.
4- أعمال لامارك في التعلم والتكيف.
وعلى الرغم من أن تعدد النظريات والتأثير شكل تحديًا في فهم أصول النظرية، علينا ببساطة أن نفهم نظرية التعقيد على أنها دراسة الأنظمة المتكيفة المعقدة. وتنطوي كلمة المعقدة على التنوع عبر الأرقام الكبيرة وطائفة متنوعة من الأطراف والأجزاء المترابطة والمستقلة، أما كلمة المتكيفة، فتشير إلى قدرة النظام على التغير والتحول والتعلم من التجارب السابقة. وأخيرًا كلمة الأنظمة تشير إلى مجموعة من الأجزاء المرتبطة والمتداخلة، أي شبكة.
وبينما يوجد عدد كبير من الأنظمة المتكيفة المعقدة على مستويات مختلفة، تكشف لنا نظرية التعقيد وجود مبادئ مشتركة ومترابطة بينها والتي نستطيع رصدها عبر جميع تلك الأنظمة.
وإليك بعضًا منها:
1. الأنظمة المتكيفة المعقدة متداخلة مع أنظمة متكيفة متعقدة أخرى
تتصرف الخلايا مثلًا كأطراف مستقلة، لكنها تحتشد وتنظم ذاتيًا لتشكيل حياة أكثر تعقيد. والبشر هم أنفسهم عبارة عن أنظمة متكيفة معقدة، فهم يستطيعون كذلك التجمهر والتنظيم ذاتيًا في مجموعات ومجتمعات ومنظمات.
2. الأنظمة المتكيفة المعقدة تستفيد من التنوع
إن تنوع مكونات هذه الأنظمة هو أمر أساسي للحصول على المعلومات والابتكار اللازمين لتطور النظام وتكيفه في بيئته، ويتجسد ذلك في الدور الذي يلعبه التنوع الحيوي في مرونة أنظمة الغابات وقدرتها على التكيف.
3. الأنظمة المتكيفة المعقدة تميل إلى الاضطراب عوضًا عن السيطرة المركزية
لا يوجد نمط سيطرة مركزي في هذه الأنظمة، فهي مختلة ومضطربة عبر كامل الأطراف، ما يسمح للنظام بإعادة التصرف والتكيف بسرعة وبكفاءة على نحو أكبر مما هو موجود في الأنظمة المركزية.
4. تظهر الأنظمة المتكيفة المعقدة مخرجات وسلوكيات طارئة وناشئة
تظهر مخرجات هذه الأنظمة عبر عملية التنظيم الذاتي عوضًا عن تصميم خارجي وتحكم، وتمثل المخرجات نتاجًا للتفاعلات وأوجه التعاضد بين الأطراف، ولا يمكن التنبؤ بها بدراسة خصائص الأطراف وحدهم. على سبيل المثال، عند الاستجابة لكوارث طبيعية. لوحظ أن المجتمعات تنظم ذاتيًا وتستجيب وفق نمط متسق دون قائد رسمي أو توجيه، ولا يمكن التنبؤ بهذا السلوك الطارئ ومخرجاته بدراسة المهارات المتوفرة والموارد لكل طرف.
5. الأنظمة المتكيفة المعقدة تبين جودة العلاقات بين الأطراف بدلًا من خصائص الأطراف ذاتهم
تعتمد قوة هذه الأنظمة بصورة كبيرة على العلاقات بين الأطراف وقدرتهم على التنظيم ذاتيًا. لذلك فإن جودة العلاقات وقوتها بين الأفراد ستقدم مؤشرًا على نجاح النظام على نحو أفضل من تحليل خصائص الأفراد ذاتهم.
6. سلوكيات ومخرجات الأنظمة المتكيفة المعقدة غير خطية ومعتمدة بصورة كبيرة على التاريخ والسياق والظروف الأولية
تظهر هذه الأنظمة سلوكيًا لا خطيًا، أي أن الحجم والمخرجات قد لا يكونا مرتبطين بالحجم والاتجاه المقصود للمدخلات، فضلًا عن ذلك، فإن خصائص هذه الأنظمة معتمدة بصورة كبيرة على السياق والتاريخ والظروف الأولية، فاتباع استراتيجية معينة على منظمة واحدة لا يعني أنها ستقدم المخرجات ذاتها عند تطبيقها على منظمة أخرى، بل إن مخرجاتها مرتبطة بتاريخ تلك المنظمة.
7. تزدهر الأنظمة المتكيفة المعقدة عند حافة الفوضى
تزدهر هذه الأنظمة في المناطق المشوبة بعدم الاستقرار، على الحدود المرسومة بين النظام والفوضى. أي عندما يوجد استقرار كافي لوجود عناصر تكرارية وتنبؤية في النظام، لكن مع وجود استقرار كافي لتوليد ابتكار كافي دون فوضى أو تشتت.
خلاصة:
في المحصلة، إذا أعدنا صياغة فهمنا للمنظمات البشرية (سواء كانت الحكومات أو الشركات أو المجتمعات أو غيرها من البنى التنظيمية) واعتبرناها أنظمة متكيفة معقدة عوضًا عن آلات كما يقترح النموذج البيروقراطي، وإذا تتبعنا الظروف الأولية وتاريخ المنظمة، وقمنا بمعاينة جودة العلاقات التي يمتلكها الأفراد في المنظمات، سنتمكن حينئذ من تشكيل فهم أفضل للتطوير التنظيمي والتعلم والابتكار، بالأضافة إلى كيفية تكرار تجارب النجاح التنظيمي وحتى الفشل.
وعليه توفر لنا نظرية التعقيد أدوات قوية مرنة ونماذج عقلية واستراتيجيات ترشد المنظمات في مختلف الظروف والمجالات، كالرعاية الصحية والأعمال وبناء المجتمعات.