هل يمكنك أن تشرح لي مفهوم أدب السجون

1 إجابات
profile/ندى-ماهر-عبدربه
ندى ماهر عبدربه
دبلوم في Dental hygienist (٢٠١٨-٢٠٢٠)
.
١٧ مارس ٢٠٢١
قبل ٤ سنوات
 يا لها من ليلة باردة، يداي ترتجفان وقلبي يخفق بشدّة، أقف في زاوية مظلمة أسمع صليل الماء يتغلّل بين شقوق جدران الزنزانة، في حين أرى ضوء القمر يعزف ألحانه المتمرّدة على غياهب الظلام المخيّم في تفاصيل صرخات الألم المتسلّلة على شكل صدى يهمس ألحان الموت عبر الثقوب المبعثرة في زوايا السجن.

 
استجمعت رباطة جأشي، وتحرّكت بين الكلمات باحثة عن مخرج ينتشل روحي من القيود الّتي حبست بين سلاسل ظلامها، لأجد (الطبيب إياد) يخطّ حكايات الألم والتعذيب على العظام المبعثرة حوله، رفع رأسه وملامح التعب والكبر تغزو وجهه الشابّ ونظر نحو نافذة الّتي تكسوها القضبان الحديديّة في الزنزانة وقال بصوت شجيّ يتخلّله ألحان الشوق: "ندفات... ندفات... تعال أيّها الثلج... تعال أيّها الغالي... فلطالما هاجني الشوق إليك، ولطالما ذبحني الحنين للقياك... كنت أطاردك في الحقول... في الحجارة المترامية... في الأشجار المتجرّدة من زينتها... في الأطفال التوّاقين لبياضك... في النهر الّذي يتخلّى عن مائه لصالحك، ويرضى بك حالاً فيه حتّى ترحل باختيارك!!"



التفّ إياد وتوجّه نحو بوّابة زنزانته الحديديّة أبتعد عن ضوء القمر فنظر إلى النافذة بعينين يرقرقها الدمع، تكوّر على نفسه وقال:

" يا الله... خذني ريشة في جناح طائر. أو نسمة في ربيع عابر. أوّل خطوة في طريق سائر. أو نغمة في غناء حائر. أو كلمة في قصيدة شاعر. أو رصاصة في بندقيّة ثائر.

هذه هي الحياة... هذه هي الحياة."


تجمّدت أطرافي وتوقّف عقلي عن التفكير لبرهة، ثمّ تقدّمت خطواتي نحوه وحاولت مدّ يديّ إلى إياد، وانتشاله من ضباب الحزن المحيط به، لكن أنّ ضربة سياط الواقع لامست ظهري، وأيقظت جسدي النائم في نعيم الحياة، بينما طيف روحيّ يتجوّل بين كلمات هذه الرواية الّتي تحمل جحيم عالم السجون، وظلامه في طيّات أوراقها وعبر خطوط كلماتها الّتي خطفت روحي نحوها عند أوّل دقّة على بوّابة عالمها.


تلك الرواية تدعى "يسمعون حسيسها" للكاتب العظيم أيمن العتوم، والّذي من خلالها استطاع تصوير مشاهد مقتبسة عن قصّة حقيقيّة تلتفّ حولها أشباح الواقع الأليم، وتظهر الجانب المظلم من العالم الّذي لطالما أختبئ وراء الكلمات المنمّقة، حيث أنّه استطاع أن يجسّد أدب السجون بكلّ تفاصيله بأسلوب روائيّ يجذب القارئ، ويأخذه برحلة حول زنزانة الشخصيّة الرئيسيّة الّتي تدخل إلى أعماق ذاته، وتجعله يواجه مختلف المشاعر الّتي تترك ندبات تيقّظه من أحلام اليقظة، وتجعله ممتنّ لكلّ تفاصيل الصغيرة الّتي لم يكن يدرك وجودها ومدى النعمة الّتي تمنحه إيّاها.



لعلّني حين قرأت هذه الرواية تخلّل بداخلي مشاهد عديدة شعرت وكأنّني أرافق الشخصيّة الرئيسيّة في رحلتها الروائيّة عبر صفحات الكتاب الّذي جعلني أواجه مشاعر الوحدة، والعزلة، والاشتياق، والحنين، والغضب، والعجز الّذي تجسّد بعدم قدرتي على انتشال "اياد" أو المسجون الأساسيّ الّذي تتبّعت جحيم حياته خطوة بخطوة داخل زنزانته الحديديّة



هذه الرواية جعلتني أبحر في تفاصيل حكاية السجن الّتي حفرت تفاصيلها بداخلي وجعلتني استنبط النتيجة عندما أنهيت آخر صفحة من هذه الرواية العظيمة المؤلمة حيث أنّها جعلتني أفكّر مليّاً وأقول: يا لنا من أجساد قويّة تحمل أرواح هشّة، تدافع عن قضيّة ورسائل المحبّة الّتي تجسّد الشوق والحنين للوطن بكلّ ما دفعنا من إيمان صادق.



ولعلّ "السجون لا تحمي الأنظمة القمعيّة، والمذابح لا تثبت سلطتها، والإكراه لا يجلب الاعتقاد.
 على العدل قامت السماوات والأرض، وعلى الظلم أن يكون جديراً بإسقاط أعتى الكيانات وأقواها وأطولها حكماً".



بتلك الكلمات استطاع الكاتب أيمن العتوم أن يفسّر تصوّراته عن أدب السجون، ويلخّص ما يدور بداخل رسالته للعالم، ويثبت أنّ العدل هو أساس كيان الدول، والظلم ببساطة يؤذّن بخراب العمران.

لم تكن رواية يسمعون حسيسها الرواية الوحيدة الّتي جسّد فيها الكاتب أيمن العتوم أدب السجون أو بمعنى آخر الأدب الّذي يصوّر الحياة خلف القضبان الحديديّة الّتي يختبئ وراءها العديد من الأرواح المتعبة الّتي تحلم بالحرّيّة، من خلال هذا الأدب استطاع الكاتب أيمن العتوم تكوين رواية أخرى عظيمة جسد من خلالها حكاية المدّة الّتي قضاها داخل السجون في مطلع التسعينيّات، والّتي تدعى "يا صاحبي السجن".

من وجهة نظري أعتبر هذه الرواية من أعظم الروايات الّتي تنتمي لهذا الأدب حيث أنّها تصوّر تفاصيل الحياة في السجن بصورة مقسّمة إلى فصول تحمل أسماء تمثّل آيات من القرآن الكريم، ولعلّ هذه الرواية تجسّد الإبداع بكلّ تفاصيله الّتي جسّدها الكاتب من خلال الخلوة بالنفس، حيث عبّر فيها عن مشاعره المقيّدة وأسلوبه مميّز في اختيار الكلمات وقال: “أخطر ما في السجن أن تفقد احترامك لذاتك، لأنّك إن فعلت صارت رقبتك بيد جلّادك، وصرت تتقبّل منه الصفعة في وجه الكرامة على أنّها قبلة في خدّ الرضى!!”



لطالما كان هذا الأدب هو المنفذ نحو الحرّيّة أو المذكّرات المحفورة في ندبات فؤاد الكاتب، كأنّ هذه الكتب تجسّد الجزيرة المنسيّة في عرض البحار، الّتي أمضى الكاتب سنين عديدة من حياته يبحر في بحر زمانها يبحث عنها ليفكّ قيود الأمواج الّتي التفت نحو أطرافه.



تعدّدت الروايات والكتب الّتي تنتمي إلى أدب السجون على مرّ العصور، ولعلّ أبرزها رواية "عزاء الفلاسفة" للكاتب بوئثيوس الّتي تناولت من خلال كلماتها العديد الحقائق المتجسّدة في علاقة المراسلات بين الإيمان والعقل وكما قال الكاتب عادل مصطفى عنها:

"الرجل الّذي ترافقه الفلسفة لا يموت أبداً. هكذا نقشت الفلسفة اسم «بوئثيوس» في الذاكرة الإنسانيّة؛ فبينما كان يقبع في سجنه منتظراً أن يؤمر الجلّاد بفصل رأس الحكمة عن جسدها، إذا به يكتب لنا «عزاء الفلسفة»؛ درّة أعماله وأحد أهمّ الكتب الفلسفيّة الّتي مهّدت الطريق أمام الفلسفة الأرسطيّة في الغرب الأوروبّيّ طوال العصور الوسطى، ليصبح بعدها الكتاب الأكثر تداولاً بعد الكتاب المقدّس طوال عشرة قرون تالية. ولا يزال «عزاء الفلسفة» موضوع نقاش بين كثير من المتخصّصين والمثقّفين حول ما أثاره من آراء وأفكار، وما تناوله من عرض وتحليل."



استطاع بوئثيوس أن يعبّر عن تفاصيل الحياة بالسجن من خلال كتابه، حيث إنّه استطاع أن يجسّد مشاعر انتظار المحاكمة والمعاناة المرافقة له بكلّ تفاصيلها، برأيي أنّ هذه التجربة ألهمته القدرة على استنباط العلاقة بين السعادة والإيمان، حيث إنّه قال: "إلى حدّ بعيد المثال الأكثر إثارة للاهتمام من أدب السجن في العالم من أيّ وقت مضى."

 

من وجهة نظري الكتابة هي اللغة الّتي يستطيع من خلالها الإنسان وصف واقعه، وما يعكسه على عالمه الداخليّ من مشاعر، فكلّ امرئ منّا يمتلك بصمته الخاصّة الّتي تتجسّد عبر نظرته للتفاصيل سواء كانت واقعيّة أو مستوحاة من عالم الخيال، ولعلّ السجن يمثّل عالم من الأسرار، ومن خلاله يستطيع الكاتب إعادة هيكلة واقعة المتجسّد في اكتشاف أسرار هذا العالم وعكس ذلك عبر كلماته، وحروفه الّتي حرّرها من سلاسل المنطق، وجعلها تصف الواقع المحيط به بحذافيره مع نفحات من المشاعر الّتي تلتفّ حول روحه، ليستطيع بكلّ بساطة خلق ما يعرف بأدب السجون.