عند النظر لهذه المهنة المقدسة، وما مر عليها من تغيرات وتصدعات، وانعكاسات وتقلبات، لوجدت أنها أكثر المهن تأثيرًا في المجتمعات القديمة والحديثة. فقد كان لمهنة التعليم في الزمن القديم شأنًا عظيمًا. واستندت عظمة هذه المهنة على ندرة من يقومون بها، والهالة التي أحاطوها بشخوصهم، وشح المدارس وقلة مرتاديها. حتى قيل لي أن تدريس الإناث كان قليلًا، وكان للمعلمة هيبة عظيمة، فمن لا تتزوج في سن صغيرة في القرى، ستكون قد أكملت تعليمها كمعلمة، ولها كل الاحترام وقتها، فلن يقوم المجتمع بمحاسبتها على قصورها بالزواج، بل لها شأنٌ عالٍ وتقدير لا حد له. في الزمن الماضي كان دور الأب عظيمًا بمساندة المعلم، لرغبته الشديدة في تعلم أولاده، حتى لو كان رغمًا عنه؛ وإذ نذكر العبارة الشهيرة التي تعطي المعلم كافة الصلاحيات: " لك اللحم، ولنا العظم، ولن يحاسبك أحد". ليصل الأمر لاستعباد المعلم للطالب أحيانًا، والرعب الذي يدُّب في قلب الطالب وأوصاله عند مشاهدة معلمه في الطرقات.
هذا الدهر قد عفا عليه، ومضت أيامه دون عودة. فقد تغيرت المعطيات، وحدثت مستجدات وتطورات قللت من شأن وقيمة التعليم، وجعلت من بعض المعلمين أشخاصًا منتزعي الهيبة، متواضعي المكانة، وذلك للأسباب التي اصدمت بها وواجهتها كمعلمة سابقة وهي:
1. ضعف راتب المعلم: عند المقارنة ما بين راتب المعلم أو راتب الطبيب أو المهندس سنجد فجوة كبيرة، هذه الفجوة جعلت تقدير مهنة التعليم منخفضًا، إلا للمعلمات الإناث؛ حيث أنهن لسن مصدر الدخل المباشر للمنزل، عكس المعلم الذكر الذي لا يستطيع مع هذا الراتب القليل أن يصرف على بيته أو أولاده إذا اعتمد فقط على التدريس بمدرسته، ودون اللجوء للدروس الخصوصية.
2. تهميش مهنة التعليم: وذلك بسبب بعض المعلمين الذين مارسوا المهنة كنوع من أنواع التجارة، كما أن وسائل الإعلام والأفلام السينمائية ساهمت في إظهار المعلم كتاجر جشع لا يعمل في مدرسته، ويضغط على طلبته لأخذ الدروس الخصوصية وتهديدهم بالرسوب.
3. التحولات المجتمعية: والتي ظهرت باستخدام التكنولوجيا، وتغيير طبيعة الجيل واحتياجاته وأنماطه. مع استمرار تقليدية وروتينية المعلم باستخدامه طريقة الإلقاء والمحاضرة، وعدم قدرته على مجاراة طلبته، والإجابات على تساؤلاتهم، مما يدفعه إما لتجاهلهم أو استخدام العنف اللفظي أو المادي معهم. هذا سيقلل من احترام الطلبة له.
4. التعليم مهنة من لا مهنة له: ينظر المجتمع لهذه المهنة على أن ملتحقيها هم ممن حصلوا على معدلات متدنية في الثانوية العامة. لكن هذا ليس صحيح، فالكاتب أيمن العتوم هو خريج هندسة مدنية ولغة عربية؛ حيث درس الهندسة المدنية إرضاءً لوالديه ودرس اللغة العربية وحصل على درجة الدكتوراه إرضاءً لنفسه. وأعرف معلمة فيزياء حوّلت من تخصص الطب في سنتها الرابعة لتخصص الفيزياء لاقتناعها بأنّ هذا ما يناسبها. ومع ذلك يغلب التحاق من لا يحصل على معدلات عالية في الثانوية، أن يلتحق بمهنة التعليم.
5. النظرة الاجتماعية: يميل الآباء لدفع أبنائهم من ذوي المعدلات العاليةِ إلى التَّخصصات التي تلقى رواجاً مادياً، وتقديراً اجتماعياً، مثل الطب والهندسة. حتى أن البعض منهم قد يتجه لتدريس ابنه على حساب التعليم الموازي أو التعليم في الخارج للابتعاد عن مهنة التعليم. وقد أجد لهم مبررًا وعذرًا وفق تجربتي الشخصية مع ابني الوحيد. كان معدله يؤهله لدراسة الرياضيات، لكني كمعلمة واجهت الكثير من الصعاب، ودرايتي بتوجهات ابني وقدراته، وعدم استطاعته القيام بالتدريس بأي شكل من الأشكال، وبناءً على شخصيته وميوله الهندسية، فكان الحل المثل هو الدراسة على البرنامج الموازي.
6. طغيان التكنولوجيا على العلم: التوجهات التكنولوجية، ووجود الإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي. مع وجود فرص أخرى للتعلم من منصات ومواقع ومدونات، جعلت من السهل التخلي عن المعلم وخدماته. فمن لم يعجبه معلمه، يمكنه الاستعانة بخدمات غيره.
لذا يمكن تغيير النظرة الدونية للمجتمع من خلال التغلب على العقبات السابقة، مع ضرورة إعادة النظر لمن يتخصص كمعلم؛ أن يكون ذلك برغبة منه، وبتفوقه في المجال الذي سيدرّسه.