ليس للندم مكانٌ في قاموسي، و لكن لأصدقك القول أعتقد أني لم أكن ناضجاً كفايةً لاتخاذ هذا القرار ، ولم أكن أفهم ما أنا مقبلٌ عليه ، و أهدافي التي دخلت التخصص من أجلها لا أستطيع وصف تفاهتها و عدم المسؤولية النابعة منها ، فللأسف كنت طفلاً لا يفهم و لا يقوم إلا بما يطلب منه من قبل والديه ، و كنت أقول في نفسي بر الوالدين ، هم أكثر خبرةً منك بالحياة ، هم يستطيعون اتخاذ القرارات الصعبة عنك ، لم أكن أدري أنهم ليس بذلك الاطلاع الذي كنت أعتقده و لتفهم أكثر يا صديقي قم بأخذ كوبٍ من الشاي و اجلس و استمع لقصتي الباردة مثل هذا الشتاء البارد .
ولدت لأم طبيبة و أبٍ حاصل على الدكتوراه بهندسة الاتصالات، ووالدي هم قصص النجاح بعائلاتهم، فأبي انتقل من كونه راعياً يتيماً ليصبح مهندساً درس بدول أوروبا و عاد كأول مهندس في لواء عي بأكمله ، و أمي ولدت في عائلةٍ فقيرة و درست و اجتهدت و حققت المرتبة 11 في الفرع العلمي لطلبة التوجيهي بالمملكة ، و هي ثاني طبيبة بالعائلة بعد عمها و أول طبيبة أنثى في عائلتها بالكامل ، مثيرٌ للإعجاب صحيح ؟ ، و هذا يا صديقي كان سبب فخري بوالدي فهم أناس تحدّوا الصعاب التي واجهتهم ليتمكنوا من أن يكون الأفضل في وقتهم و الأفضل بين أقرانهم ، و بالحقيقة هم كذلك .
والسبب في ذكري لهذا الأمر هو أن ما كان ينطبق في زمانهم لا ينطبق في وقتنا الحالي ، فعند حصولي على معدل يؤهلني لدراسة الطب في الأردن كان أول ما قاله لي والدي ، الطبيب ليس بالشخص الفقير و أسوأ الأطباء ميسور الحال ، و أمي قالت لي إن الطب متعب و لكن يمكنك أن تجتازه و أن قلت لهم أحب التصوير و آلة التصوير وصناعة الأفلام، فكان أول ردٍ لي أنه لا يطعم خبزاً بالأردن ، فقلت حصلت على منحة بالخارج فقالوا لي لن تجد وظيفةً بعد التخرج ، فقلت ما أفعل قالوا ادرس الطب فهو ضمانة لك و لمستقبلك ، و لم أكن مدركاً وقتها أن الله هو الرزاق و أن رزقي سيأتيني رغماً عن أنفي ، و لا ألقي باللوم عليهم فاللوم كله علي ، فهم نصحوني بالأمر الذي حقّق لهم النجاح في وقتهم و لم يعرفوا ما هو التخصص الأفضل في وقتنا الحالي ، و أنا لم أبحث في احتياجات سوق العمل و بالكمية الدراسية و الوقت المهدور الذي يحتاجه كل تخصص، لم أفعل شيئاً ، بل قلت و لم لا .
لو عاد بي الزمن و كنت مدركاً لهذه الأمور لكنت اخترت دراسة الأعمال ، أو التصوير و الإخراج ، أو البرمجة فهذه هي متطلبات العصر الخاص بنا ، صحيح أن الطب مطلوب لكن التنافس زاد و البطالة بدأت فيه ، و دراسته الجحيم بذاته ، وهل تعلم أن الدراسة بعد الجامعة أغزر بكثير من أيام الدراسة الجامعية ، فأنت تهدر من عمرك ما يقارب العشر أعوام إن لم يكن أكثر و أنت تدرس و تتقدّم للامتحانات، لا أدري كيف يقوم الأهل بتوجيه أبنائهم لهذا الجحيم ، و الجدوى الاقتصادية و االاجتماعية تتحقق فيه بعد الخمسين أي أن أبنائي من سيحصلون على المال و السفرات التي ظننت أني سأحققها بدخولي لهذا التخصص يال مضيعة الوقت ، هكذا كنت أفكر حتى العام الماضي .
و الآن وصلت للحقيقة التالية ، أن هذا التخصص هو أفضل ما يسرّني إليه الخالق ، توصلت لها بعد بدء العمل بالمستشفى و القيام بالإجابة على موقع أجيب ، أصبحت أرى الأمور من ناحية أخرى، لم يعد يهمني المال و الوجاهة بالدرجة الأولى ، بل أصبح همي هو رسم البسمة على عجوزٍ قمت بمساعدتها بالشفاء و سماع ذلك الدعاء بعدها ( الله يوفقك يا ولدي ) أو ( الله يخفف عنك زي ما خففت عني) صار همي أخفف عن ذلك الطفل المجروح و أنقله من حالة البكاء الشديد للسكون و النوم الهانئ ، لا أستطيع حساب كمية الأجر من الله في مساعدة روح بشرية تحتاج لمن يخفف عنها ، في كل ابتسامة ، في كل حبة دواء ، أو حتى قطبة جراحية أقوم بها لا أدري كم يأجرني الله في أمر أقوم به لأحصل على المال و لأعيش حياةً ميسورة ، هكذا ،هكذا أواسي نفسي بكمية السعادة التي أراها في وجوه من أساعدهم ، هكذا أتغلّب على السهر و الإجهاد و حتى الإهانة أحياناً هذا ما أقوله لنفسي ، فيا صديقي رزقي مكتوب و عمري مكتوب ، و أنا أفنيه لحياة الإنسان ، فالسؤال هو فيما تفني أنت عمرك ؟
الطب هو أعظم أمرٍ حدث لي ،هو أعظم مشروع دنيوي و للآخرة قام الله بتيسيرهِ لي ، فلست نادماً بل أصبحت ناضجاً ، فكلنا ميسرٌ لما خلق له ، فاحرص على عمارة الأرض في اختيارك ، و اعلم أن ربط الأهداف بالحياة الدنيا زائل و ما عند الله خير للأبرار .
إذا كنت وصلت لهذا الحد فأشكرك لمتابعة القراءة ، و أعتذر على الإطالة و لكن في القصة عبرة .
و السلام
و إذا فيك طاقةٌ لقراءة المزيد فقم بالقراءة عن تجارب غيري من التخصصات من خلال القيام بالنقر على الرابط
التالي .