في أحد ايام شهر ايلول الممطرة، تمت دعوتي لحضور معرض فني يعرض فيه مجموعة من اللوحات المقتبسة من لوحات عالمية، في المساء دقت ساعتي لتذكرني بتأخري، لكنني كنت منغمسة حينها بتظليل خلفية لوحتي التي لم اختر ابطال حكايتها بعد، خرجت مسرعة اسابق الزمن، ولكنه سبقني بعض الشيء وصلت متأخرة عن الموعد وبقي القليل من الوقت لإغلاق المعرض، و لم يكن هنالك عدد كبير من الأشخاص، لم أُعر اهتماماً حينها للمطر الذي كان يبلل ثيابي ولا الموسيقى حولي التي كانت تزيد من برودة اطرافي، كان كل همي ان استفيد من قراءتي للوحات، و استطيع إيجاد مصدر إلهام يساعدني على اختيار عنوان للوحتي.
مررت عبر اللوحات احاول قرأتها و كتابة حكاياتها المخفية على اوراقي المبللة بعض الشيء، وخلال ذلك لفت انتباهي لوحة معلقة بقرب النافذة كان لانعكاس الضوء المنكسر عليها بسبب قطرات المطر وقعاً ملفتاً للانتباه، و ما لبثت الا ان اجد نفسي الاحق هذا الضوء ليوصلني عند تلك اللوحة، شعرت حينها بنوع من المشاعر المتضاربة بين القلق و اطمئنان الذي بدأ بالتلاشي رويداً رويدا، ليغزو شعور الارتباك كل احاسيسي، كانت اللوحة تحمل في طياتها شخصية متمثلة برجل يقف وسط الطبيعة، ما كان يدعو للغرابة حينها هو وقفة الرجل ونظرته المتأمّلة بعمق .
صحيح أن العالم مفتوح أمامه إذ يقف في ذلك المكان المرتفع الذي يُفترض انه يرى منه كل شيء أمامه وتحته ، ومع ذلك فالعالم ما يزال بالنسبة له لغزا يلفّه الضباب ويستعصي على الفهم، ومعظم المشهد محجوب عن أنظارنا ، والمسافر هنا مكشوف جزئيا فقط ، حيث أننا لا نراه سوى من الخلف ، وليس هناك ما يدلّ على حقيقة تعابيره سوى طريقته في الوقوف التي ربّما تكون المؤشّر الوحيد على مزاجه، لقد خطر ببالي في البداية ان الواقف أمامنا ليس سوى الفنان نفسه ، لكنّ كلّ ما نراه هو رجل غارق في لقاء تأمّلي مع الطبيعة ، والطبيعة هنا لا تكشف سوى عن جزء يسير منها ، ورحلة المسافر إلى هذا المكان توفّر له أفقا أوضح وأكثر رحابة ممّا هو متوفّر بالأسفل .
ومع ذلك ليس هناك وضوح تام ، إذ يتعذّر رؤية ما وراء الضّباب وإن كان بالإمكان محاولة التنبّؤ بما يخفيه.
في اللوحة يركّز الفنان على عناصر التباين ، فالطبيعة هنا لا تكشف عن أيّ جمال ظاهري ملفت ، بل تعمّد الرسّام التأكيد على رؤيته الخاصة لوظيفة الفن ، وهي إبراز الطريقة التي تجعلنا من خلال الطبيعة نتوق لشيء لا يمكن بلوغه ، اظن انه قد يكون الجنّة الكامنة في طفولتنا حسب التفسير الفرويدي.
بدأت الاضواء بالانطفاء معلنةً انتهاء وقت المعرض و رحيل الاشخاص عبر الابواب، مشيت مبتعدة عن اللوحة وما زال شعور الارتباك يغزو روحي كأن قطرات المطر على ثيابي بللت روحي أيضاً تاركتاً وراءها الهاماً اوصلني لاختيار عنوان للوحتي، وكان مسافر فوق بحر من ضباب.