اللغة العربيّة كغيرها من اللغات، لم تولد منزهة عن آثام العاميّ والدخيل، "ومن المعروف أنّ اللغة الحيّة تجمع في سيرها مع الأيام كلّغثّ وسمين، وما يميز العربيّة عن غيرها من اللغات كونها لغة واسعة، ذات بناء تراكميّ مرن، وهي أكثر اللغات الساميّة حيويّة، ما زالت ترتبط متونها برباط متين يجمع بين ماضيها وحاضرها، وهي بعيدة كلّ البعد عن الترهل والإسفاف في منظومتها اللغويّة، ولا غرو أنّهاتحتفظ بعناصر تجعلها في طليعة اللغات العالميّة،
وإن شهدت العقود الأخيرة عزوف أبنائها عن استخدامها الأصيل في المجتمعات العربيّة قاطبة، ولعلّ أهمّ العوامل الداعية إلى ذلك مابات يعرف باللهجات المتعدّدة، التي حلّت بديلا عن الرجوع إلى مضامينها الصحيحة، وليس هذا بالمستغرب أو المستهجن، فقد شهدت ذلك في ريعان شبابها وفتوتها، عندما كانت صنعة العرب البلاغة والفصاحة. فلم تقلّل الفصاحة وقتذاك من تغاير اللهجات بين القبائلالعربيّة برمّتها، ولا يعني هذا أنّ العربيّة كانت تسير على غير هدى من غير ضابط يضبطها، بل على الرغم من فوضى اللهجات المتعدّدة، إلا أنّها شكّلت رافدا خصبا للعربيّة، أرفدها بكثير من الألفاظ التي أخرجت تلك اللغة من ضيق يحاصر أركانها إلى سعةتفتّقت معها الألفاظ والمعاني المستحدثة. وإنّ الاختلاف بين لهجات القبائل لم يكن وليد الصدفة أو من قبيل الترف الذهنيّ، بل هو وليد البيئة قبل التجربة، ووليد المجاورة قبل البداهة. فالبيئة لها دور كبير في صقل الألفاظ وصياغتها، فأهل البادية الذين يكابدون شظف العيش وقسوة الأيام وجدبها، ينعكس نمط عيشهم هذا على أساليب حياتهم ولاسيما لهجتهم، لذا تجد الحدة والتفخيم يسيطران على لغتهم المحكيّة، وعلى النقيض من ذلك أهل المدينة والحضر، فحياتهم أميل إلى اللين والسهولة؛ لذلك تجد لهجتهم أرقّ وأسهل.
وإذا فصّلنا الأسباب التي أدّت إلى تراجع الاهتمام باللغة العربية عمومًا فهي:
• عدم بناء المناهج على أسس متينة تربط دروس اللغة العربية بحياة المتعلّم.
• ابتعاد طرق تدريس اللغة عن وسائل الحداثة.
• عدم وضوح الأهداف في الأذهان.
• دراسة الأدب والنصوص لا تصل الطالب بنتاج حاضره وتراث ماضيه بطريقة تترك أثرها في حياته.
• نقص عدد المعلّمين المتخصّصين باللغة العربيّة وانخفاض مستواهم نسبياً.
• عدم مواكبة الأهل لأبنائهم على صعيد تعزيز إلمامهم باللغة الأمّ التي من شأنها أن ترسم خطّ الودّ بين الطفل والمادة.
• التركيز على اللغة المكتوبة، وحصر اللغة الشفهية بتمارين الاستظهار أو القراءة التي تكون أحياناً مفروضة على الطالب فرضًا وغير محاكية لذوقه وتطلّعاته.
الحلول كثيرة من أبرزها وضع هيكلية عصرية وهادفة للمناهج الدراسية التي تتناول مادّة اللغة العربيّة، لإنشاء رابط من الموّدة بين الطالب وهذه المادّة، إلى جانب تمييز شخصية الطّالب وإرشاده إلى اكتشاف مهاراته الفكريّة والقياديّة، وتساعده في تحقيق ذاته وتطوير مواهبه الفردية وتعزيز ثقته بنفسه ومنحه الأدوات التي تمكّنه من التأثير على المجتمع خير تأثير.
وإلى هنا، لابدّ من العودة إلى أهمّية امتلاك اللّغة. اللغة ثقافة وحضارة وليست فقط أداة تواصل، فامتلاك اللغة يؤثّر على مستويات الاتصال والتواصل والتأثير والإقناع، ونموّ الذوق الجمالي والجاذبية الشخصية وتوطيد الانتماء إلى هويّة جامعة حقيقيّة.