الإعجاز التأثيري، هو ما يقع في النفس الإنسانية عند تلاوة القرآن الكريم وتدبره واستماعه، من الورعة، وهو ما يملأ قلوب الناس بالخشية والهيبة من شدة تأثير الكلام المنزّل، وما تميل إليه الأسماع وتستلذ به، سواء أكانت هذه النفس البشرية مؤمنة أم غير مؤمنة، فاهمة لمعانية أم غير فاهمة له، فيكون وقعه شديدًا على النفس البشرية في فطرتها، فلا تستطيع مقامته.
قيل: هو وجه من وجوه إعجاز القرآن، يتمثل فيما يتركه القرآن من أثر ظاهر أو باطن على سامعه، أو قارئه، ولا يستطيع هذا السامع، أو القارئ مقاومته ودفعه، ولا يقتصر ذلك على المؤمنين به.
وبعبارة أخرى: هو تأثير القرآن الكريم في النفس الإنسانية عندما تسمعه، وتفاعلها معه، حتى لو كانت نفساً غير مؤمنة.
يقول ابن القيم الجوزية، في كتابه (الفوائد):
إذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه وألق سمعك، واحضر حضور من يخاطبه به من تكلم به سبحانه منه إليه فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله قال الله تعالى {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد} [ق: 37]
وهذا النوع من الإعجاز يتمثل في المعجزة الدائمة، الباقية في نفوس البشر جميعًا، من عالم وجاهل، وذكر وأنثى، والمسلم وغير المسلم، فهي حاضرة في النفوس إلى يوم الدين.
ومن أبرز الأمثلة عليه:
ما روي عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "قالَ لي النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: اقْرَأْ عَلَيَّ، قُلتُ: آقْرَأُ عَلَيْكَ وعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قالَ: فإنِّي أُحِبُّ أنْ أسْمَعَهُ مِن غَيرِي، فَقَرَأْتُ عليه سُورَةَ النِّسَاءِ، حتَّى بَلَغْتُ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41]، قالَ: أمْسِكْ، فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ." حديث صحيح [صحيح البخاري: 5482]
ما روي عن عبد الله بن الشخير -رضي الله عنه- قال: "رأيتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُصَلِّي وفي صدرِه أَزِيزٌ كأَزِيزِ الرَّحَى مِنَ البُكاءِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم". حديث صحيح [صحيح ابي داود: 904]
تأثير القرآن الكريم على الجن، في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنْذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [الأحقاف: 29،30]”
يقول سيد قطب في تفسير هذه الآية: “ويرسم النص مشهد هذا النفر وهم ما بين ثلاثة وعشرة وهم يستمعون إلى هذا القرآن، ويصور لنا ما وقع في حسهم منه، من الروعة والتأثر والرهبة والخشوع. ﴿فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا﴾.. وتلقي هذه الكلمة ظلال الموقف كله طوال مدة الاستماع، ﴿فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنْذِرِينَ﴾.
وفي قوله تعالى: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا﴾ [الجن: 1-3]. فأصبح في عالم الجن دعاة يبلغون دعوة الله تعالى: ﴿يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الأحقاف: 31]. وهذا كله من تأثير القرآن الكريم.
وكان أول من اعتبر هذا التأثير في القرآن الكريم، وصنفه على أنه وجه من وجوه الإعجاز القرآني، هو الخطابي، أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي – ت 388 هـ
فقال في كتابه (ثلاث رسائل في إعجاز القرآن)
(قلت في إعجاز القرآن وجهاً آخر ذهب عنه الناس فلا يكاد يعرفه إلا الشاذّ من آحادهم وذلك حيفة بالقلوب، وتأثيره في النّفوس فإنّك لا تسمع كلاماً غير القرآن، منظوراً ولا منثوراً، إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللّذة والحلاوة في حال، ومن الروعة والمهابة في أخرى، ما يخلص منه إليه تستبشر به النفوس وتنشرح له الصدور حتى إذا أخذت حظّها منه عادت إليه مرتاعة قد عراها الوجيب والقلق تغشّاها الخوف والفرق، تقشعرّ منه الجلود وتنزعج له القلوب، يحول بين النفس وبين مضمراتها وعقائدها الراسخة فيها).
(فكم من عدو للرسول صلى الله عليه وسلم من رجال العرب، أقبلوا يريدون اغتياله وقتله فسمعوا آيات القرآن فلم يلبثوا حين وقعت في مسامعهم أن يتحوّلوا عن رأيهم الأوّل وأن يركنوا إلى مسالمته، ويدخلوا في دينه، وصارت عداوتهم موالاة وكفرهم إيماناً).