"الوجه في اللوحة ظاهرٌ لولا التفاحة، إنها تخفي الوجه جزئياً على الأقل؛ هذا الأمر يحدث لنا باستمرار. كل شيء نراه يخفي شيئا آخر وراءه، ونحن دائمًا نرغب في رؤية ما يختفي وراء ما نراه. هناك فضول يعترينا وراء ما هو مخفي وماهو جلي غير ظاهر لنا. هذا الفضول قد يصبح غامراً للغاية، وهو شكل من أشكال الصراع -كما يمكن أن نوصفه- بين الظاهر المخفي والظاهر الجلي".
رينيه ماغريت
عبر الفنان او الفيلسوف رينيه ماغريت بهذه الكلمات عن أشهر لوحاته، التي تعد من أعظم اللوحات السيريالية واكثرها شهرة، فما هي هذه اللوحة وما هي الفلسفة المزروعة بين طيات خطوطها؟
(لوحة ابن الإنسان) او (The son of man)
هي لوحة سيريالية رسمها الفنان رينيه ماغريت عام 1964، حيث أنها اعتبرت من أكثر اللوحات السيريالية وغموضا، ولعل السبب يعود الى قدرتها على ترك المشاهد في حيرة عند رؤيته لتفاصيلها الغريبة والتي يتخللها الغاز مخفية، حيث أن رينيه جسد من خلالها صورة شخص يلبس لباس رسمي يتكون من معطف طويل و قبعة سوداء، واقف بالقرب من سور حجري يخبئ ورائه البحر، والسماء فوقه ملبدة بالغيوم، و الغريب ان هنالك تفاحة خضراء تغطي وجه الرجل فلا يظهر منه إلا جزء من عينه اليسرى.
هذه اللوحة برأيي استطاعت تمثيل السيريالية بحذافيرها، حيث انها تمردت على قواعد المنطق واخذت المشاهد نحو عالم الخيال ،و السبب يعود الى العناصر الغريبة التي تتمركز في اللوحة و تجعل من خطوطها و الوانها لغزا ينطوي ورائه الكثير من الاسرار، التي استطاعت التفاحة المغطية لوجه الرجل أن تجسدها، وأيضاً صورة الطائر الذي يطير فوق الشخصية الرئيسية في اللوحة بدون جناحين من ريش كما يقول المنطق، بل كانت اجنحته من سحاب، كل تلك العناصر استطاعت أن تزعزع مفاهيم الواقع و تتمرد على المنطق و تخلق طريقا يحمل رسائل عالم الخيال الذي ولد من العقل الباطن للفنان.
استخدم رينيه عدة تقنيات ولوحاته ليستطيع إيصال رسالتهم بصورة واضحة و ايضا يتمكن من زرع الحيرة في نفوس المشاهدين، لذلك كان لتقنية التظليل و تقنية التطبيع دور كبير في اظهار واقعية عناصر اللوحة، و أيضا استطاعت الخطوط الافقية أن تمنح اللوحة مساحة و تعطي امتداد للمشهد الى الداخل، في حين استطاعت الخطوط العامودية أن تجعل الشخصية الرئيسية المتمثلة في الانسان ان تظهر متعامدة مع السماء و خطوطها المنحنية التي تتخلل الخلفية.
تداخل المباشر بين التفاحة و الوجه جعل اللوحة تحمل صورة من الواقعية والتناسب مع العناصر اللوحة، اما الالوان المتمثلة بالونين الازرق و الرمادي كتطبيق الألوان الباردة و الأحمر يمثل الألوان الدافئة ، ان هذه الالوان برأيي استطاعت ببساطة أن تزيد من الواقعية بصورة يعوزها المنطق.
من جهة نظري أن هذه اللوحة مستمدة من القصص الدينية و تحديدا قصة آدم والتفاحة و الخطيئة، حيث قال رينيه معبرا عن لوحته
"كل شيء نراه يكتنفه شيء غامض لا نراه، ونحن بدورنا نريد معرفة ذاك الذي لا نستطيع رؤيته".
من خلال تلك الكلمات عبر رينيه عن الغموض المتعمد الذي جسده في اللوحة، و لعل هذا الغموض تكسر اسواره مطرقة تفاصيل القصة التي استمدت منها اللوحة مضمونها، بحيث أن الرجل المتمركز في منتصف اللوحة يعبر عن الخطيئة المستمرة، و ربما يدل رداءه الرسمي على استمرار هذه الخطيئة وتوارثها عبر العصور، في حين تعبر التفاحة عن التصاق الخطيئة بابن الانسان منذ الازل و عدم وجود مهرب منها.
من جهة اخرى، وايا كان الهدف من اللوحة، لا يمكن للمشاهد إنكار مدى روعة تصويرها و الاحلام السيريالية التي عبرت عنها بشفافية واقعية، تاركة المتلقي يسرح بخياله و يضع تفسيرات يمليها عليه ذهنه لصورة الشكل الحقيقي للعناصر الرئيسية و ما يختبئ وراء التفاصيل السريالية في اللوحة من حكايا.