كانت السماء بعيدة، منذ أكثر من ستمئة سنة، عبرت خطوات البشر على تراب الأرض وتركت آثَارًا فيها، لبسوا السعادات الهاربة، وشكلوا مجتمعات سكانية مثلت ثقافتهم ومعرفتهم، حيث إن قارة أوروبا كانت من القارات التي تحمل بداخلها العديد من المدن التي يسكنها البشر منذ عصور.
ولكن الظلام كان يخيم على سمائها في العصور الوسطى وتحديداً في بدايتها أدى إلى معاناتها من الجهل الذي ترأس قمة الحياة المجتمعية آنذاك، والذي نتج عنه العديد من المشاكل العظمى التي هددت عناصر البيئة الثقافية المتمثلة بالعناصر السكانية في هذه القارة لكن ومع التطور الحضاري وانتشال أوروبا من غياهب الظلام التي كانت غارقة فيها ازدهرت العناصر البيئية في أواسط أو أواخر العصور الوسطى، فما هي هذه العصور، وكيف تركت بصمة واضحة في تاريخ أوروبا؟
قبل أن نعرف العصور الوسطى يجدر بي أن أفسر معنى العناصر السكانية ومدى تأثيرها على الدول وخاصة أوروبا حيث إن العناصر السكانية جزء من العناصر البيئة الثقافية في المجتمع والتي لها دور كبير في إدارة الأعمال الدولية والسياسات تعتبر العناصر السكانية المؤثر الأول على حجم وطبيعة استهلاك المجتمع للسلع، والخدمات، والتي تؤثر على النمو وتطور الدولة وإعمارها، حيث إنها تتأثر بالعديد من العناصر من ضمنها:
مستوى التعليم الذي يمثل جزءاً أساسياً من عناصر المجتمع والذي ينعكس على سلوك أفراده على سبيل المثال أن الدولة التي تمتلك مستوى تعليم مرتفع تتميز بحاجتها إلى أنواع محددة من السلع والخدمات التي تتجسد على شكل المكتبات ودور الثقافة وغيرها مما يجعل الدولة ذات مكانة مرتفعة وتمتاز بنموها وتطورها السريع والملحوظ.
ولعل معدلات النمو السكاني، وتوزيع السكان بين الريف والمدينة، ومتوسط عدد أفراد الأسرة أيضاً من أكبر المؤثرين على العناصر السكانية في الدولة والتي تعكس تقدمها ومدى تطورها ونموها.
لكن كيف تأثرت العناصر السكانية في أوروبا وتحديداً في العصور الوسطى؟
يمكننا أن نعتبر العصور الوسطى (Middle Ages) من الفترات التاريخية التي امتدت من القرن الخامس إلى القرن الخامس عشر حيث إنها بدأت بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية عام 476 وامتدت حتى العصر الحديث قسمت العصور الوسطى إلى ثلاث مراحل تبدأ بالعصور الوسطى المبكرة التي بدأت منذ أواخر القرن الخامس لتمتد إلى أواسط القرن العاشر، والتي امتازت بلقبها (العصور المظلمة) لما كانت تحمله من صفات تمتاز بالصراع الحاد والتعارض بين الفن الإغريقي وبين المرتكزات الهمجية.
ولعل انتشار وباء الطاعون بشكل كبير في منطقة البحر المتوسط ومعظم دول أوروبا، جعلها تشهد نمو سكاني ضئيل مما أثر على العناصر السكانية في هذه الفترة وأدى إلى اضمحلالها حيث إن الجهل، وانخفاض المستوى المعرفي، والتعليمي، والمشاكل، والاضطرابات الاقتصادية، والمجتمعية، وغيرها من العوامل أدت إلى التأثير على السكان والعناصر التابعة إليهم، لكن الحياة الريفية استطاعت بشكل أو بآخر بأن تنتشل القطاع السكاني وتحفز التنمية الإقطاعية وتنصير أوروبا من خلالها.
ومن العصور الوسطى المبكرة إلى العصور الوسطى العليا التي تضمنت ازدهار وخروج من غياهب ظلام العصور التي سبقتها، حيث إنها توسعت في الزراعة وكثرت الفتوحات التي أدت إلى التوسع السكاني وإعادة التوطين.
إن الاستقرار السياسي في هذه الحقبة الزمنية أسفر على نمو العناصر السكانية، والحصول على الاستقرار الاجتماعي في مختلف المدن الأوروبية وانتعاشها اقتصادياً وازدهار الفنون الثقافية والعمرانية.
أما بالنسبة إلى العصور الوسطى المتأخرة، فقد بقيت مستويات السكان مرتفعة على الرغم من توقف حدود الزراعة لكن شهدت هذه الفترة بسبب سلسلة من الأحداث أبرزها الأمراض المعدية، ونقص التغذية والفقر، انخفاض ملحوظ في عدد السكان الذي أثر بشكل مباشر على العناصر السكانية في المجتمع وأدى إلى اضمحلالها.
لعل هذه التغيرات التي حدثت في فترة العصور الوسطى العليا كانت سببا لبداية حقبة جديدة تمثل التاريخ الحديث وأوروبا الحديثة المبكرة، والتي أدت إلى طي صفحة مظلمة من التاريخ وتشكيل عناصر سكانية جديدة حملت راية القدر واستمرت في سعيها نحو تطور ونمو الدولة وازدهارها.