في الحقيقة هنالك اختلاف بين
عَلمانية المعرفة" الآتية من المصطلح اليوناني “
Secularism” وبين عِلمانية المعرفة الآتية من "
العِلم" أو "
عِلموي"
Scientism” " , والتمييز أيضًا بين المعرفة كسؤال "
ابستمولوجي (نظرية المعرفة)", وبين "
العلم" كنسق فلسفي خاص ضمن تصور معرفي عام..
في نظري فإنّ كليهما يعود إلى البحث والتطبيق لنظرية المعرفة وهي تلك الباحثة في "
طبيعة" المعرفة "
مصادرها" و"
مجالاتها", والتي تدخل في تكوين رؤى الشخص حول العالم أو ما يُعرّف بِ"
النموذج المعرفي paradigm - برادايم- " وينبني عليها مفهومي الإيمان والحقيقة والنظريات الأخلاقية وكل ما ارتبط في فهم العالم.. فانبنى على ذلك العديد من المدارس الفلسفية الباحثة في نظرية المعرفة كان من أشهر النظريات لهذه المدارس
النظرة العقلانية و
النظرة التجريبية و"
المنهج الوضعي" الّذي وضعه "
أوغست كونت"..
فكان جوهر هذا المنهج الوضعي الذي أسسه أوغست كونت هي "
العِلموية", وهي ما تعبّر عن أيدلوجيا للعلم يحتوي على مجموعة من الإحالات الفلسفية ويحتوي بداخل منظومته على رؤى للأشياء والكون من حولنا مما يعكس نمط اجتماعي وتعاملاتي للإنسان مع ما حوله, وسيرورة وقانون تطور حتمي يتمثل في
مراحل ثلاثة:
الأولى هي اللاهوتية
والثانية هي الميتافيزيقية
والثالثة هي الوضعية كتعبير عن النضج البشري واكتمال نموها العقلي
وقد اشتمل هذا المنهج على إقصاء فكرة المقدّس أو التفسير الميتافيزيقي للعالم وخاصة الدّين, ,فأصبحت الرواية الفلسفية لدى الغرب في الإجابة عن "ماذا" و"كيف", واستبدال التفاسير الدينية لنشأة الخلق مثلا وأسرار سير الأشياء إلى نظريات علمية تُفسر "
الكيفية" وتصف المشهد, دون التطرق إلى إجابات "
الغائية" - لماذا- .. وفي ذلك أهمال وعدم نفاذ لِـ "
ماهية" الأشياء" من حولنا, فالعلم ربّما أخبرنا مثلا بقانون الجاذبية ولكنّه لم يستطع أن يقول لنا ماهية هذا القانون..
كل ذلك لا ينفك عمّا تعنيه العَلمانية Secular والّتي تعود في اللاتينية إلى saeculum وهي تعبر عن دلالة مزدوجة تتعلق بالزمان والمكان، فالزمان يشير إلى "الآن" والمكان يشير "هذا العالم"، وبالتالي فهي تشير بمجملها إلى ما معناه "العصر الحاضر". وصف ذلك سيد محمد نقيب العطاس "بأن الأمر أشبه بأن يدير الإنسان ظهره لعالم الغيب وما وراء الطبيعة ويحصر نفسه في هذا المكان وهذا الزمان" .
يقابل ذلك في الفكر الإسلامي
"إسلامية المعرفة" الّتي عرّفها سيد محمد نقيب العطّاس بأنها " عملية تحرير للإنسان من القوى السحرية والأساطير والعقائد الخرافية, وأيضا من الرؤية العلمانية الدهرية للوجود"..
ونادى بذلك عدد من العلماء المسلمين في مشاريع متعددة كان من أبرزهم, وإسماعيل راجي الفاروقي في كتابه "التوحيد", ومحمد إقبال بكتابه تجديد الفكر الديني في الإسلام..
ومشاريع محمد أبو القاسم الحاج حمد في تحرير المعرفة من الرؤية الغربية حددها بقوله " فك الارتباط بين الإنجاز العلمي والحضاري البشري والإحالات الفلسفية والوضعية بأشكالها المختلفة" "وذلك تابع لكون أن تفسير الوقائع وبناء النظريات ينتمي إلى مجال العلوم الإنسانية من حيث أنّه نشاط ذهني يتم في إطار رؤية معينة للوجود ونظرة محددة للحقيقة"*
يدفعنا ذلك إلى طرح العديد من التساؤلات الأخرى, مثلا حول أسباب نشأة مثل هذه المذاهب الفلسفية لدى الغرب بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر ميلادي, وإلى التفريق بين العلمانية كأيدلوجية وبين العلمنة كحركة ديناميكية, وعن مفهوم الأخلاق والمقدّس والغيبي, وأيضًا عن النظريات العلمية الحالية في تفسير الكون ونشأة الوجود والمعنى من الحياة..
يمكن الاستزادة بالعودة إلى هذه المراجع:
كتاب مداخلات فلسفية في الإسلام والعَلمانية لسيد محمد العطاس ومراجعات الكاتب و
الباحث محمود أبو عادي له على شبكة نون بوست..
المقال
الأول,
الثاني ومقاله
حول التنوير والعلمنة والاديان وأخيرًا مقال من الشبكة المعرفية الثرية إضاءات من
هنا