قال الله تعالى: {ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ۚ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُون} (سورة آل عمران الآية 44)
جاء في تفسير هذه الآية الكريمة تفسيرًا كافيًا وافيًا
تفسير الطبري لابن جرير الطبري -رحمه الله-:﴿ذَ ٰلِكَ مِن أنبَاءِ ٱلغَيبِ نُوحِیهِ إِلَيك وَمَا كُنتَ لَدَيهِمۡ إِذ یُلۡقُونَ أَقلَـٰمَهُم أَیُّهُم یَكفُلُ مَریَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيهِم إِذ یَخـتصمونَ﴾
القول في تأويل قوله: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله ذلك: الأخبارَ التي أخبرَ بها عبادَه عن امرأة عمران وابنتها مريم، وزكريا وابنه يحيى، وسائر ما قصَّ في الآيات من قوله:"إن الله اصطفى آدم ونوحًا"، ثم جمعَ جميعَ ذلك تعالى ذكره بقوله:"ذلك"، فقال: هذه الأنباء من"أنباء الغيب"، أي: من أخبار الغيب.
ويعني ب"الغيب"، أنها من خفيّ أخبار القوم التي لم تطَّلع أنت، يا محمد، عليها ولا قومك، ولم يعلمها إلا قليلٌ من أحبار أهل الكتابين ورهبانهم.
ثم أخبر تعالى ذكره نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أنه أوحى ذلك إليه، حجةً على نبوته، وتحقيقًا لصدقه، وقطعًا منه به عذرَ منكري رسالته من كفار أهل الكتابين، الذين يعلمون أنّ محمدًا لم يصل إلى علم هذه الأنباء مع خفائها، ولم يدرك معرفتها مع خُمولها عند أهلها، إلا بإعلام الله ذلك إياه. إذ كان معلومًا عندهم أنّ محمدًا صلى الله عليه وسلم أميٌّ لا يكتب فيقرأ الكتب؛ فيصل إلى علم ذلك من قِبَل الكتب، ولا صاحبَ أهل الكتُب فيأخذ علمه من قِبَلهم.
وأما×"الغيْب" فمصدر من قول القائل: "غاب فلان عن كذا فهو يَغيب عنه غيْبًا وَغيبةً".
وأما قوله:"نُوحيه إليك"، فإن تأويله: نُنَزِّله إليك.
وأصل"الإيحاء"، إلقاء الموحِي إلى الموحَى إليه.
وذلك قد يكون بكتاب وإشارة وإيماء، وبإلهام، وبرسالة، كما قال جل ثناؤه: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾ [سورة النحل: ٦٨] ، بمعنى: ألقى ذلك إليها فألهمها، وكما قال: ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ﴾ [سورة المائدة: ١١١] ، بمعنى: ألقيت إليهم علمَ ذلك إلهامًا... "
أما تفسير السعدي:
"ولما أخبر الله نبيه بما أخبر به عن مريم، وكيف تنقلت بها الأحوال التي قيضها الله لها، وكان هذا من الأمور الغيبية التي لا تعلم إلا بالوحي. قال ﴿ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم﴾ أي: عندهم ﴿إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم﴾ لما ذهبت بها أمها إلى من لهم الأمر على بيت المقدس، فتشاحوا وتخاصموا أيهم يكفل مريم، واقترعوا عليها بأن ألقوا أقلامهم في النهر، فأيهم لم يجر قلمه مع الماء فله كفالتها، فوقع ذلك لزكريا نبيهم وأفضلهم، فلما أَخْبَرتَهُم يا محمد بهذه الأخبار التي لا علم لك ولا لقومك بها دل على أنك صادق وأنك رسول الله حقا، فوجب عليهم الانقياد لك وامتثال أوامرك، كما قال تعالى: ﴿وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر﴾ الآيات."
هذا والله تعالى أعلى وأعلم.