( ذلك ) و ( تلك ) من أسماء الإشارة التي تستخدم في الإشارة إلى البعيد ويستفاد ذلك بإضافة اللام إليها ، فأصل اسم الإشارة هو ( ذا ) للمذكر و ( تا ) للمؤنث ، فإذا أضيف إليهما اللام والكاف كان المقصود الإشارة إلى البعيد ، سواء كان بعده زمني أو مكاني أو قدراً ومنزلة .
فالفرق الظاهر بين قوله تعالى ( ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك ) وقوله تعالى ( تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ) ، أن المشار إليه في الآية يؤول على أنه مذكر ، بينما في الآية الثانية يؤول على أنه مؤنث .
فقوله ( ذلك ) يعني أن ذلك النبأ والخبر الذي أخبرتك به سابقاً هو من أنباء الغيب .
وقوله (تلك ) يعني أن تلك القصة التي أخبرتك بها هي من أنباء الغيب .
قال القرطبي رحمه الله " تلك من أنباء الغيب أي تلك الأنباء ، وفي موضع آخر " ذلك " أي ذلك النبأ والقصص من أنباء ما غاب عنك " ,
وقال ابن عاشور رحمه الله " والإشارة ب { تلك } إلى ما تقدم من خبر نوح عليه السّلام ، وتأنيث اسم الإشارة بتأويل أن المشار إليه القصة ".
وإضافته إلى اللام الدالة على البعد سببها واضح وهو بعد القصة الزماني عن وقت بعثة نبينا عليه السلام ، حيث القصص المذكورة جرت قبل بعثته بمئات السنين .
بقي تلمس الحكمة البلاغية من استخدام اسم الإشارة للمذكر في موضع واستخدام اسم الإشارة إلى المؤنث في موضع آخر ؟
والجواب :
يلاحظ أنه استخدم اسم الإشارة إلى المذكر في موضعين في القران :
الأول : بعد ذكر قصة مريم عليها السلام ونشأتها في كنف زكريا وما حصل بينهما وكيف كان رزق الله لها دافعاً له لسؤال الله يحيى ثم كيف وهب الله له يحيى ، ثم الإشارة إلى اصطفاء الله لمريم قال الله بعد ذلك " ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون " ( آل عمران ، 44 ).
الثاني : في خنام قصة يوسف عليه السلام حيث قال تعالى ( ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا امرهم وهم يمكرون ) (102)
وفي الموضعين المشار إليهما خبر ونبأ واحد متصل فاقتضى التذكير مع الإفراد على أنه خبر ونبأ واحد ، وكلمة القصص في بداية سورة يوسف هي اسم مفعول بمعنى المقصوص وليست جمعاً ، ثم إن المقصوص في قصة يوسف هو نبأ وقصة رجل وهو يوسف فأشير إليه بالتذكير ، وفي سورة آل عمران هي قصة ونبأ مريم وزكريا ويحيى فغلب جانب التذكير في الإشارة إلى قصتهم .
أما اسم الإشارة إلى المؤنث فاستخدم في سورة هود بعد ذكر قصة نوح عليه السلام حيث قال الله تعالى "تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين " (49).
والإشارة هنا يقول بعض العلماء إلى مجموع القصص التي وردت في السورة وهي أكثر من قصة : قصة نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وإبراهيم وموسى عليهم السلام ، ومجموع قصصهم هي أخبار وأنباء فاقتضى المقام التأنيث .
ولكن هذا الوجه يناقش بأن ظاهر المقصود من الآية هي قصة نوح عليه السلام فقط ولا يصح جعل اسم الإشارة عائد لما بعد ذلك من القصص .
لذلك قد يكون هناك وجه آخر أحسن لتوجيه الحكمة من استخدام اسم الإشارة المؤنث رغم أن القصة هي قصة نوح وهو مذكر ، وهو أن نقول :
أن أعجب ما في قصة نوح هو نبأ السفينة التي بناها وحمل عليها المؤمنين وكيف نجت من الطوفان بإذن الله ، وتفصيل نبأ هذه السفينة وحادثة الطوفان لم يكن عند قريش علم بها ، فكأن الإشارة ب( تلك ) إنما هو لسفينة نوح عليه السلام خاصة من باب التنبيه عليها .
والله أعلم