أولا : اقترن ذكر قصة يحيى ومريم وعيسى عليهم السلام في القران مرتين وليس مرة واحدة :
المرة الأولى: في سورة آل عمران من الآية 35 وما بعدها ( إن الله اصطفى ...)
المرة الثانية : في سورة مريم عليه السلام في مطلع السورة والصفحات الثلاث الأول منها.
ثانيا : يمكن تلمس بعض الحكم من تكرار هذا الجمع أو الإيراد للقصتين مع بعضهما منها، خلاصة هذه الحكم هو الارتباط الوثيق بين القصتين مما جعل إيرادهما مع بعضهما أنسب للسياق ، ومن مظاهر هذا الارتباط :
1. أن هناك صلة قرابة بين عيسى ويحيى عليهما السلام ، فهما أولاد خالة كما جاء في الحديث الصحيح في قصة معراج النبي عليه الصلاة والسلام لما رآهما في السماء الثانية ، حيث وصفهما بأبناء الخالة .
حيث قيل في تفسير هذه القرابة أن زوجة زكريا هي أخت زوجة عمران والد مريم ، فوالدة يحيى خالة مريم ، وبالتالي هي خالة عيسى عليه السلام.
2. أن القصتين حدثتا في نفس الفترة الزمنية ، ويحيى وعيسى كانا أنبياء في نفس الوقت ، وكان عيسى يلتقي بيحيى عليه السلام ويحصل بينهما كلام ومعونة على الدعوة إلى الله بين بني إسرائيل ، وقد ورد في ذلك أحاديث صحيحة.
3. أن القصتين مرتبطتين ببعضهما البعض من جهة الأحداث ، فولادة مريم ثم تربية زكريا لها وكفالتها ، ورؤيته لها وهي تكبر ، ثم رؤيته كيف كان الله يرزقها من حيث لا تحتسب ، وجواب مريم له لما سألها عن مصدر هذا الرزق فأجابته ( إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ) ، وتأثره بذلك حتى توجه إلى ربه بالدعاء ( هنالك دعاء زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء ) ، ثم ما حصل لمريم بعد ذلك من حلمها بعيسى عليه السلام ولادته ..إلى آخر القصة .
فارتباط الأحداث ببعضها وتلعق القصتين ببعضهما البعض يجعل ذكرهما مجتمعين أنسب ولا شك.
4. أن الدروس المستفادة من القصتين مرتبطة ومتقاربة ، ولربما يكون خلاصة هذه الدورس في قوله تعالى ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب).
فبطاعة مريم ربها رزقها الله من حيث لا تحتسب وهي في محرابها .
وبطاعتها أعطاها عيسى بلا زوج فصار قرة عين لها وجعل ذكرها عاليا إلى يوم الدين.
وبطاعتها رزقها التمر ويسر ولادتها .
وبطاعتها دفع عنها شر الخائضين في عرضها .
وبطاعة زكريا ودعائه وقنوته وعبادته أصلح الله له زوجه وأعطاه من زوجته العقيم وهو الشيخ الطاعن في السن يحيى عليه السلام ، وجعله حصورا وسيدا ونبيا من الصالحين.
وهذا التشابه في العبر المستفادة واضح من الإشارة إلى القصتين في سورة الأنبياء في قوله تعالى ( وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89)فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ۖ وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ (91) )
فانظر كيف علل الله هذا العطاء والرزق بقوله ( إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا ) .
والله أعلم