الأشكال الهندسية التي تخالف قواعد الظل والمنظور،الوجوه و الشخصيات المبعثرة في فضاء اللون و المنطق، العناصر التكعيبية التي تفصل بين الواقع والخيال بصورة يعوزها المنطق، كل تلك العناصر تشكل صورة مقتبسة من الواقع، ولكنها تسافر في رحلة طويلة عبر عالم الخيال، لكي تجسد لوحة تتميز بتمردها و تفردها بأسلوبها الخاص الذي جعل منها مثالا على الابداع.
المدرسة التكعيبية أو (cubism) ، هي أحد الاتجاهات الفنية التي انتمى إليها أعظم الفنانين و استلهموا من خلالها العديد من اللوحات التي أثرت عالم الفن الحديث، ولعل أبرز من استفرد بتأسيس قواعدها هو الفنان بابلو بيكاسو، الذي اتخذ من الاشكال الهندسية وسيلة لترجمة لغة روحه، و لكسر قيود الواقع التي كانت تلتف حول فرشاته.
نحت الناقد لويس فوكسيل مصطلح التكعيبية و أطلقه على اللوحات التي يظهر عليها مظهر الأشكال الهندسية التي تصف التلال الصخرية و المنازل بصورة تشبه المكعبات، ومن هنا أطلق هذا الاسم على المدرسة التكعيبية و تداول في عالم الفن حتى وقتنا الحالي.
تأسست هذه الحركة على يد الفنان بابلو بيكاسو الذي استلهم تفاصيلها من خلال الاقنعة القبلية الافريقية التي تصف الشكل بصورة بسيطة غير طبيعية، لكنها بالرغم من ذلك تظهر أشكال بشرية في لوحاتها، ومن هنا عمل بابلو بيكاسو على تغير النمط التقليدي الذي يفرضه عليه الفن و تمرد على قواعد الظل والمنظور و صنع أسلوبا جديدا و وصفه قائلاً "لا يعتبر الوجه إلا مسألة عيون وأنف وفم يمكن توزيعها بأي طريقة تريدها".
ومن هنا نشأت المدرسة التكعيبية على اعمدة العديد من اللوحات التي تغنى الكون بجمالها الغير مألوف، و احتفظ بها البشر في اكبر المتاحف و القصور و في مختلف ارجاء العالم، و لعل ابرز تلك اللوحات تدعى" Guernica"
أو الجرنيكا، فما هي هذه اللوحة وكيف استطاعت التأثير على المدرسة التكعيبية و تسليط الاضواء على هذه الاتجاه الفني؟
لوحة غرنيكا تعتبر من أكثر اللوحات الجدارية التي عبرت عن الانسانية و رفضت من خلال عناصرها وتفاصيلها الحروب بشكل قاطع، حيث رسمها الفنان بابلو بيكاسو ، و استوحى تفاصيلها من قصف مدينة غرنيكا، وما تركه من أثر مؤلم في نفس الفنان و العالم وأثر على مشاعرهبشكل واضح، حيث ان هذه اللوحة تعرض مأساة ومعاناة التي تخلقها الحرب و تؤثر على الأفراد و تحديدا النساء و الأطفال الذين استوطنت آثارهم تفاصيل اللوحة، حيث انك ترى من خلالها مشهد يعبر عن المجزرة التي حدثت في المكان الذي تم قصفه، و من خلال اللون الباهت سوف يتراءى أمامك غبار الحرب و النسيم المحمل بالبارود لكي ينقشع ضباب الحريق، و تجد امامك أجساد الضحايا التي تحمل تفاصيل الهلع على وجوهها.
تلك اللوحة كانت برأيي بيكاسو هي السبب الذي جعله ينشأ الفن و كانت المدرسة التكعيبية أفضل وسيلة لترجمة ما يشعر به و ما تتخيله روحه، حيث انه قال:
"إن الفن لم يخلق لتزيين الغرف؛ إنه آلة يستخدمها الإنسان من أجل الحرب والدفاع ضد الأعداء، وكما بدا لنا من خلال المعارك التي مضت أنه على الإنسان أن يقاتل كل ما يهدد حرية التعبير"
بابلو بيكاسو
من وجهة نظري ان المدرسة التكعيبية وسيلة يعبر بها الفنان عن الواقع بصورة تكسر القواعد و تتمرد على القوانين الفنية التي فرضت على أنامل الفنان وقيدتها بحبال المنطق.
ان هذه المدرسة استطاعت منذ نشأتها أن تسمح للفنان بأن يترجم مشاعره بكل شفافية دون الاكتراث إلى أي مدى سوف ينطلق بخياله، لتجعل منه سفيرا يحمل رسالة الحرية و يعبر عنها بواسطة سرمدية اللون و الحركة.