لا يمكنك أن تفسر ما تمر به بأنه وسواس، فمن يحدد ذلك هو المعالج النفسي. لذلك عليك بداية المرور على الطبيب النفسي ليحدد ما تمر به، هل هو وسواس قهري أم شيء آخر؟. لا يجب عليك بتاتًا أن تتقهقر عن عيادة الطبيب النفسي، واترك عنك الكلام المجتمعي الفارغ. فنحن جميعًا مصابون بأمراض نفسية متنوعة، منها ما هو بسيط الحالة، كالقلق والتوتر وصعوبة النوم، ومنها ما يكون معقدًا لكنه سهل الحل إذا ما تم تحديد ماهيته بدقة.
كما أود سؤالك: هل ما تشعر به هو همس أم ريبة ووسواس؟ فالهمسات هي افتراضات عقلية تتوالد وتختفي من تلقاء نفسها، تحدث دون سابق إنذار، وتنقض على عقلك بسرعة وتختفي بسرعة أيضًا، وقد تأتي بتكرار على مرات عدة دون توكيد أو إنهاء. أما الشك فيختلف تمامًا، هو تفسير خاطئ للمعتقدات أو النصوص الدينية، مما يولد مشكلة لا يتمكن الفرد من حلها أو تفسيرها ولا يفهمها السائل. وللشك في العقائد أربعة أسباب:
1. حديث ضعيف
2. رأي غير معصوم
3. سوء فهم لنصٍ ديني
4. عدم فهم التوجه الديني للنص
وهذه النقطة الأخيرة تحتاج للكثير من الوقت ليتم التعامل معها بالشكل الصحيح، لارتباطه بشخصية شخصية للسائل. فقد يرى النص الديني من منظور توجه معين، يرفض مثلًا نظام العقوبات في الدين الإسلامي لمن يتعدى الحدود مثل عقوبات القتل والسرقة وغيرها، لكنه يتقبل هذا النظام ضمن القوانين الحديثة التي تتبع توجهه.لهذا يحتاج الأفراد في هذا السبب التشككي إلى ضبط للمفاهيم والأشياء لتتوافق مع المنطق، ومعالجة المفاهيم العالقة في رؤوسهم وتصحيحها. لذا يستمر الشك لدى هؤلاء لفترات أطول من غيرهم، حتى يجدوا إجابة على تساؤلاتهم، أو يختفي تلقائيًّا. يكون هذا الاختفاء للشبهات ناجمًا عن التزام العبادات والإخلاص بها، أو من خلال الحث على فعل الخير لعلاج الشبهات. بينما الهمس يزداد بالبحث عن إجابات للشبهات الروحانية.
إن الشك والهمس لا يتمثلان بعمر معين، فقد يصيب الطفل أو الشاب أو الكهل. قد يستمران لسنوات، وقد يتلاشيان. ومن المعروف أنّ أغلب من يصابون بالشك هم من لا يمتلكون المعرفة الكافية بقوانين وشريعة الدين الإسلامي. وهو ما يشبه من لديه مناعة ضعيفة أو منخفضة، فتكون قابلية جسمه للتعرض والإصابة بالأمراض كبيرة.
هل الوسواس معصية؟
بالطبع لا، فالوسواس قد يكون أجر ورفع درجة. فالوسواس هو ابتلاء للعقل، كما المرض هو ابتلاء للجسم، فيكفّر الله ذنوب عباده بالمرض حل صبره، ويكفرها بصبره على الشك ومحاولة مقاومته. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلُوهُ: إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ. قَالَ: "وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟" قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: "ذَاكَ صَرِيحُ الإِيمَانِ". رواه مسلم.
وفي حديث عَبْدِ اللّهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْوَسْوَسَةِ. قَالَ: "تِلْكَ مَحْضُ الإِيمَانِ". رواه مسلم
وهذا يعني يا صديقي أن لك سلف من الصحابة، وأنك ممن يمتلكون إيمانًا ظاهرًا يقينيًّا، فلو لم يمتلك قلبك هذا الإيمان والخوف على الطاعة، لما انزعجت من هجوم الوساوس عليك. ومصارعتك لتلك الوساوس ومحاربتها هو صريح الإيمان. فاحرص على مكافأة قلبك بمقاومة تلك الوساوس، والالتزام على الأقل بالفروض والطاعات قهرًا وغلبةً على شكوكك. حتى لو تمتلك ذلك اليقين بالعبادة. تذكر نفسك عند المرض، تجد أن جسدك قد همد عم أداء بعض الطاعات، فمن الطبيعي والمتوقع أن يقعدك الوسواس أيضًا عنها، لذا حافظ على فروضك قدر الإمكان، حتى لو تمتلك لذة الطاعة، ولديك قناعة بعدم تقبلها منك، أو لم تمتلك ذلك الخشوع. لا تقلق، كل ما سبق من الأعراض الطبيعية للوسواس والشك، فالتزم ثم التزم ثم التزم بالفروض، مهما كان ذلك شاقًا أو مجهدًا لنفسك، فهذا التكاسل سيجعلك عرضة لوسواس أكبر، ولعوارض أعظم ستجعلك تحاول البحث عن الإله، أو المغزى من هذه الحياة، وهذا هو مدخل الشيطان لك. بدايةً يدخل لك من باب الشك في أعمالك الروتينية البسيطة التي تكون نقاط ضعف لديك، ثم ننسع الهوّة إذا ما تجاوبت معه فتهمل النوافل، لتلحقها الفروض، لتصل إلى الشك في كل شيء من حولك حتى نفسك ودينك وإلهك. يتعمد في زرع الشك في نفسك بحجج شتى منها عدم القَبول أو عدم الخشوع، أو عدم استشعار اللذة في الطاعات. أما بالنسبة لما كنت تنجزه من نوافل، فالله أولى بما كنت تقوم به، فـأنت كما المريض، وعسى الله أن يجزيك بما كنت تفعله من نوافل مسبقة، وبإمكانك التعويض عما سلف.
عليك أن تدرك أن الوسواس ليس ضعف بتاتًا، بل هو دلالة على قوتك، وضعف الشيطان الذي يحاول استمالتك بشتى الطرق. فلا تدع له سبيلًا للنصر من خلال جعل قلبك يطمئن لتلك الوساوس ويرتاح لها. ويبدو لي أنك لست كذلك، والدليل سؤالك لنا على منصتنا، فقلبك كاره لها، نافرٌ لوجودها ويتقلب ذات اليمين والشمال بحثًا ع حل لها، فهنيئًا لك صريح الإيمان، ولا تقلق، فبيدك الأمر أن تطردها وتزجرها بالطاعات.
والآن، كيف تتعامل مع الوسواس في العقيدة؟
أنصحك بدايةً أن لا تبحث بتاتًا عن رد لوساوسك، فهذا سيدخلك في متاهات ودوامات لا نهاية لها، وخاصة بوجود وسائل التواصل الاجتماعي ومحركات البحث، وتعدد الآراء التي يكون معظمها خاطئ لا صحة لها. لأنك هنا تغذي شكوكك بشكوك أقوى، وتسمح للشيطان بالتلاعب بعقلك وأفكارك وتوجيهك نحو الغريب من الآراء. فالوساوس تأتي وتذهب ذاتيًّا مع إهمالها وتناسيها، والبحث عن إجابات لها ستتوالد بلا انقطاع. فإياك ثم إياك البحث عن إجابات لأصول قد تكون غالبًا خارج نطاق العقل البشري المحدود وضمن نطاق الخالق العظيم. فادفع وساوسك بالإعراض عنها دون استدلال أو حتى النظر في إبطال أصولها، ومن ثم اللجوء إلى الله بالاستعاذة لدفع شرور نفسك عنك، والمبادرة إلى قطعه بالانشغال عنه بغيره من أمور.
كما عليك ألا تستغفر من هذه الوساوس! قد تجد هذه النصيحة غريبة، لكن جُلُّ هذا الأمر أنك بالاستغفار هنا تجلد ذاتك، وتشعرها أنك على خطأ جسيم، وقد أقرّ هذا العديد من العلماء الشرعيين وكذلك علماء النفس السلوكيين حيث يقرون أن جلد الذات في هذه الحالة سيستدعي المزيد من الوساوس الأخرى والمزيد من التساؤلات. فمعرفتك أن وساوسك هي من صريح الإيمان وأنك ستؤجر بها ستدفعك لتقوية عزيمتك، ودفعها عنك، والحصول على قناعة ذاتية بالرغبة بقهرها وعدم الخضوع لها. فالوسواس يزداد بالخوف والرهبة، ويختفي تمامًا بالتجاهل والتحقير من شأنه والتعالي عليه.
ونصيحتي الثالثة أن تعمل على استغلال فترة وساوسك بالعديد من الأنشطة التي تدعم تجاهلك لها، من خلال ممارسة الهوايات التي تعشقها، أو تعلم هواية جديدة، أو بناء وتوسيع شبكة علاقتك الاجتماعية، أو المشاركات التطوعية، أو تنمية مهاراتك المختلفة. واشغل نفسك قبل أن تنشغل بها. هذه النصيحة أعمل بها حاليًّا كإجراء وقائي قبل أن تداهمني الوساوس لأي شيء كان، وليس بالضرورة للعقيدة. يمكنك أيضًا أن تكون لاعبًا ماهرًا مع وساوسك. جابهها وتحدث معها، وقل لها: مهما تعاظمت أنا أقوى منك، ومهما بلغت فالعقيدة أقوى منك، وكل كبيرة وصغيرة لها تفسير قد أجهله، لكنه موجود ليدحضك. قد تجد ذلك أمرًا مضحكًا وغريبًا، لكن تعاملك باستخفاف مع الفرضيات العقلية، تجعلها تلقائيًّا تختفي. وهذه من ممارسات علم النفس السلوكي. يمكنك مقارنة ذلك بقول معلم ما لطالب: أنت غبي. لتجد هذا الطالب لا يصدق المعلم، لدعم والديه له، ولتلقيه منهما ومن نفسه أيضًا فرضيات عقلية يقينية بأنه ذكي وقوي، ومن لا يعرف ذلك هو الغبي.
ونهايةً، عند مداهمة الوسواس لك، استعذ بالله، واقرأ سورة الإخلاص، ثم قل " الله ربي لا شريك له". وأيضًا" آمنت بالله ورسله"، وتكثر من قوله تعالى: " هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ". كما يمكنك اتخاذ ورد يومي من القرآن الكريم تحدده بنفسك، ولا يفترض أن يكون كثيرًا، فقط اجعله عادة يومية وبنية خالصة لوجه الله. لا تجعل الشيطان يخدعك فهو يتحدث بنفس صدى صوتك في صدرك. الأفكار التي تعجز عن دفعها وتكرهها هي منه، فلا تلتفت إليها وأعرض عنها وتجاهلها واستعذ بالله.