لا يوجد تعارض بين الأمرين بل هذا هو المطلوب خاصة في هذا الزمن الذي ضعف فيه دين كثير من الناس وساءت أخلاقهم .
فسوء الظن المنهي عنه في قوله تعالى ( اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ) .
وفي قوله عليه السلام ( إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ) ( متفق عليه ) .
إنما هو سوء الظن غير المبني على أمارات أو دلائل أو قرائن ، وإنما مجرد أوهام أو إشاعات أو أخبار غير محققة لا مستند لها ، والتي يعقد الإنسان عليها قلبه ويثبتها في عقله فيعامل الناس على أساسها ويحكم عليهم بناء عليها ، فيذم هذا ويحذر من هذا ويهجر هذا لا لشيء إلا لسوء ظن غير مبني على أساس علمي أو شرعي صحيح !
أما الحيطة والحذر في التعامل مع الناس فهي نوع من النباهة وتيقظ العقل ، تجعل الإنسان لا يعامل الناس على أساس طيبة وثقة تدفعه إلى الركون واعتقاد السلامة فيهم ، بل هو على حذر فلا يؤمن سره إلا لمن خبرهم وجربهم ، وهو حذر في بيعه وشرائه ومعاملاته ، وإن كان هذا الحذر الداخلي لا يجعله يستعجل في إصدار أحكام على الناس قبل أن يختبرهم ويعلم حالهم وصدقهم من كذبهم .
فسوء الظن يجعل صاحبه يتعجل في إصدار الأحكام دون أساس ، بينما الحذر يجعل صاحبه يقظاً يطلب اختبار حال المقابل له .
فسوء الظن مقابلها إحسان الظن ، والحذر والانتباه في التعامل يقابلها الطيبة والاسترسال والغفلة أحياناً.
ومبدأ الحيطة والحذر طبقه السلف قديماً لما وجد داعيه ، فقد كان السلف قبل وقوع الفتنة بين الأمة واختلافها وظهور أهل البدع والأهواء ،يقبلون الحديث من صاحبه دون سؤال عن إسناده لغلبة التقوى على الناس وعدم وجود كذب ، فلما وقع الفتنة وظهرت البدعة وخيف من الكذب على رسول الله صار السلف يقولون سموا لنا رجالكم وهاتوا إسناد الحديث حتى نحكم عليه ، وهذا ليس من باب إساءة الظن وإنما حيطة وحذراً من دخول الكذب على حديث رسول الله .
قال ابن سيرين رحمه الله " لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قالوا : سموا لنا رجالكم ، فيُنْظَرُ إلى أهل السنة فيُؤْخذ حديثُهم ، ويُنْظَر إلى أهل البدعة فلا يؤخذ حديثهم ".
والله أعلم