"عزيزى ثيو.. إلى أين تمضي الحياة بي؟ ما الذي يصنعه العقل بنا؟ إنه يفقد الأشياء بهجتها ويقودنا نحو الكآبة، إننى أتعفن مللاً لولا ريشتى وألواني هذه، أعيد بها خلق الأشياء من جديد، كل الأشياء تغدو باردة وباهتة بعدما يطؤها الزمن، ماذا أصنع؟ أريد أن أبتكر خطوطا وألوانا جديدة، غير تلك التى يتعثر بصرنا بها كل يوم."
بتلك الكلمات لخص الكاتب نبيل صالح تصوراته حول حكاية فان غوخ الحزينة و نهايتها المأساوية التى تكللت بالانتحار بصورة ادبية تعكس تصور الفنان.
لكن ما رأي العلم بهذه الحادثة؟
وما قصة الفنان المبدع الذي أمضى حياة تعيسة التي زقترنت بالإبداع الجامح وانتهى الأمر بصاحبها عند ابواب الانتحار، و ما هي علاقة إبداع الفنان و الأقاويل التي إنتشرت عن إصابته بمرض نفسي أدى به الى إنهاء حياته؟
ان العلاقة بين الأمراض النفسية و الإبداع تحل دائما على الدراسات في علم النفس، ولعل الأمثلة الحية التي كانت تتميز بالعبقرية و الابداع كانت محور هذه الدراسات و الطريق لمعرفة خفايا أشهر الأمراض النفسية مثل إضراب ثنائي القطب، والفصام، والاكتئاب.. وغيرها من الامراض التي رافقتها حالة العبقرية و الإبداع وكانت نهاية أصحابها الانتحار.
من أبرز هذه الحالات التي تتمثل بالفنان الهولندي فان جوخ الذي كما أشيع عنه أنه كان يعاني من اضطراب ثنائي القطب، المرض النفسي الذي عكر صفو حياته واخذه نحو الكأبة و جعله من اكثر الفنانين إبداعاً و تجسيداً للافكار بداخله، و فتح للعالم النافذة نحو عالم الخيال الذي كان يحمله فان غوخ بين اضلعه ليستطيع ان يرسم أفضل اللوحات في العالم، فقد خلف فان غوخ ورائه اكثر من ألفي لوحة وسكيتش، لكننا للأسف لم يصل الينا إلا بعض منها، و لعل أبرزها لوحة ليلة النجوم، و حقل قمح مع الغربان التي نرى من خلالهما إحساس فان جوخ بإقتراب اجله، و قدرته على وضع شيفرات سرية فيها ورموز لدلالة على حالته النفسية التي قادته الى الانتحار، بحيث عمل على تصوير شجرة السرو من أسفل اللوحة الى قمتها دلالةً على رحيله الى السماء التي تتجسد في لوحته ليلة النجوم حينما رسمها في نفس السنة التي توفي فيها، وتجسيد كل معاني الكآبة من خلال الألوان الدرامية الداكنة التي تتخلل السماء و الأشكال الانطباعية التي تحمل دلالات تدق بها أجراس الجنازة.
انتحار فان جوخ كان موضوعاً جدلياً عبر العصور وتخللته العديد من الدراسات والابحاث، وبالرغم من عدد الدراسات الهائل، فأن لوحاته برأيي تعتبر أكبر دليل على أن المرض العقلي الذي اصابه كان محرك للإبداع والقدرة على الإفصاح عن ما بداخله بكل شفافية و إعطاء الفرصة للمشاهد لسماع الصراع الذي يدور بداخله بدون ان ينطق بأي كلمة.
وبالرغم من النهاية المأساوية التي حصل عليها فان غوخ، فهو يعتبر ايقونة في عالم الفن و مثال للقدرة على الابداع والابتكار، و تجسيد أعراض مرضه العقلي على الورق ليعطي فرصة للعالم للتعرف عليه من وجهة نظر ذاته.