اجتمع الخليفة عمر بن الخطاب مع قادة جيوشه، في مدينة الجابية في الجولان عام 18 هـ، للتشاور حول فتح مصر بعد الانتهاء من فتح الشام. فتقرر القيام بذلك بقيادة عمرو بن العاص" داهية العرب"، الذي يعرف عنها الكثير، بعد زيارتها وتقصي مسالكها. بدأت رحلة الفتح من قيسارية في فلسطين، بقوة تبلغ 4000 مقاتل. ليجتاز رفح والعريش في الحدود المصرية، دون مقاومة لخلوها من الحصون. ثم سلك طريق الفاتحين والتجار وهو ما يسمى الطريق الساحلي. وصل مدينة الفرما القديمة المحصنة على رأس الطريق الصحراوي في مصر، وحاصرها شهرًا لمناعتها. ثم استولى عليها عام 19 هـ ودمرها بالكامل، حتى لا يقطع عليه الأعداء خط الرجعة. تم الاتجاه جنوبًا وصولًا لمدينة بلبيس ليستولي عليها بعد شهر آخر. ثم اتجه لقرية أم دنين، لتقع بجيشه الخسائر من الجيش البيزنطي، ثم اشتبك معهم في معركة عين شمس وانتصر عليهم، واحتل حصن بابليون لموقعه الاستراتيجي المتوسط بين الصعيد والدلتا. وبعد سبعة أشهر تم عقد معاهدة حصن بابليون الأولى لحقن الدماء. لكن هرقل رفض المعاهدة، وبعد موته قام المسلمون بإسقاط الحصن عام 20 هـ ليتم السيطرة على الإسكندرية.
قرر حكام مصر البيزنطيون أن ينهوا الحرب مع المسلمين. فتم إبرام معاهدة بين قيرس وعمرو بن العاص عام 20 هـ التي سميت معاهدة بابليون الثانية وضمن شروط محددة. ومن هنا بدأ تاريخ الفسطاط، فقد كانت الإسكندرية عاصمة البلاد وفكر ابن العاص في جعلها عاصمة الإمارة وقاعدة للجيش، إلا أن عمر بن الخطاب لم يوافقه على ذلك، وكلفه ببناء مدينة جديدة لا نفصله عن المسلمين بماء شتاء أو صيف. فاختار موقع المدينة الجديد الذي كان فضاء ومزارع بين النيل والجبل الشرقي الذي يعرف الآن بالمقطم وسماها الفسطاط. حيث لاحظ أنه باختيارها سيرضي المصريين الذين كرهوه بعد استيلائه على الإسكندرية التي ظُلموا بها واضطهدوا من قبل الرومان فيها. ووجد أن هذا أفضل لأن المواطنين المسالمين سينظرون له كمنقذ لهم من الرومان ويحترمون خياره في الإقامة عند حصن بابليون أو ما يسمى قصر الشمع وفي قلب مصر. كما أن القصر محمي طبيعيُّا من خلال تلال المقطم من الشرق والجنوب، ونهر النيل كخندق مائي طبيعي من الغرب ويصل بين الشمال والجنوب. كما أن موقع الفسطاط يقع على رأس الدلتا ويشرف على طريق الملاحة النهرية وجميع طرق القوافل الصحراوية، ومن ثم سهولة انتقال الجيوش على أي جهة من الوجه القبلي والبحري وذلك يمنع حدوث أي فتنة ضد النظام الجديد. كما يسمح الموقع الجديد بالقدرة على التوسع شمالًا؛ وهذا ما حدث فعلًا عند بناء مدينة العسكر ثم القطائع ثم القاهرة وحديثًا تم تشييد العباسية ثم مصر الجديدة ثم مدينة مصر. كما أنّ هذا الموقع يتناسب مع طبيعة العرب البدوية القبلية من وجود الصحراء والماء.
شغلت الفسطاط مساحة قدرها 5000 متر طولًا من الشمال والجنوب وبعرض 3800 متر من الشرق عند جبل المقطم إلى الغرب حيث النيل. وقد ورد في تسمية الفسطاط بهذا الاسم عدة روايات منها:
* اشتق من الكلمة اليونانية "فسطاطوم"، وهو اسم الحصن أو المدينة أو الخندق عند بابليون، ثم حُرفّت لتصبح" الفسطاط".
* أن معنى الفسطاط هو المخيم، نسبة لمخيم جيش عمرو بن العاص عند محاصرته لحصن بابليون.
* كما يقال أن كلمة الفسطاط هي كلمة عربية الأصل، تطلق على المدينة ومجتمعها. فقد جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم"عليكم بالجماعة، فإن يد الله على الفسطاط". أي مع المدينة التي بها مجتمع من الناس. وما يدل على ذلك إطلاق اسم الفسطاط على البصرة أيضًا.
* وقد سردت رواية، لكنها على الأغلب من الأساطير، وهي أن عمرو بن العاص قد بنى فسطاطة بمصر، ثم أمر أن يقوّض لكن يمامة باضت أعلاه فتركها حتى تفقس وتربي صغارها، فذهب للإسكندرية وفتحها، ليسأل أصحابه أين يريدون الإقامة؟ فطلبوا منه أن يرجعوا لفسطاطه ليكونوا عند الماء والصحراء، فكان أن ذهبوا وبنوا مدينة الفسطاط.
أول ما بُني في الفسطاط مسجدها الجامع الذي سُميّ بالجامع العتيق أو جامع عمرو بن العاص أو جامع الفتح أو تاج الجوامع، كما سُميّ بمسجد أهل الراية. وكانت مساحته صغيرة 25×15 م، لكنه أساس التنظيم العمراني. وبنى عمرو بن العاص دارًا له شرق الجامع، وبنى لابنه دارًا ملاصقة لداره، وترك فضاءً واسعًا لموقف دواب الجند. ثم اختار أربعة من القادة لتوزيع القبائل على الخطط إثر تنازعهم على السُكنى في المدينة. ثم بنيت الدور والأسواق والمساجد والقياساريات والمطاحن والحوانيت والأفران والحمامات ومصانع السكر والصابون. كما حفر عمرو بن العاص القناة القديمة التي تصل النيل بالبحر الأحمر.
مرت الفسطاط بالعديد من الأحداث التي أثرت عليها بشدة ومنها:
* الشدة المستنصرية: التي حدثت أثناء تولي الخليفة المستنصر بالله الفاطمي (427-487 هـ) بسبب اضطراب الدولة وضعفها بسبب الفتن وفيضان النيل، حتى أكل الناس الكلاب والقطط ولحوم صغار البشر في الأزقة والشوارع وقد عثر على العديد من الناس معهم أطفال مشويين أو مطبوخين، فأمر صاحب الشرطة بقتل الفاعل لذلك والآكل. وارتفعت الأسعار حتى بلغ سعر رغيف الخبز إلى 15 ديناراً، وبلغت السلع 25 ضعفاً من سعرها العادي. مما خرب العديد من الأماكن فيها بحيث هاجر سكانها من الجزء الشرقي منها.
* حريق الفسطاط: وقد كان عام 565 هـ، وتم بأمر شاور وزير الخليفة العاضد الفاطمي، لمنع الصليبين من اتخاذها قاعدة لهم بعد غزوها، حيث لم تكن محصنة بالأسوار. فأخرج الناس دون متاعهم أو أموالهم، وأحرقها بحيث بقيت مشتعلة 54 يوم.
* بناء القاهرة: حيث هاجر الناس إليها، وأصبحت الثقل الاقتصادي لمصر، فخلت الفسطاط من معظم سكانها، واكتمل الخراب بحرق شاور السعدي للمنازل.
بعد تولي أسد الدين شيركوه الحكم، دعا الناس للعودة للفسطاط، فاشتكى له الناس الفقر وضيق الحال، فرفق بحالهم وطلب من صلاح الدين الأيوبي إعادة العمران، فجدد جامع عمرو بن العاص، وأعاد المجد للعلم بسبب حبه له، ورغبته في محاربة المذهب الإسماعيلي ورد الاعتبار للمذهب السني، فأنشأ العديد من المدارس منها المدرسة الناصرية، والمدرة القمحية، ومدرسة منازل العز، والمدرسة الأزكشية، والمدرسة الصاحبية، ومدرسة بن رشيق.
أما في العصر العثماني، فبقيت الفسطاط ميناءً نهريًّا مهمًا على ساحل النيل، وقد غلب اسم مصر القديمة عليها. وقد شهدت نموًا عمرانيًّا واضحًا فتعددت المدارس، واعتبر التنظيم الإداري لمصر العثمانية على أنها مقاطعة مالية مستقلة، ثم اتحدت معها بولاق ومقاطعة خضرا، لتصبح باسم مقاطعة إسكلة بولاق ومصر القديمة وخضرا وتوابعها. كما كثرت الأنشطة الاقتصادية والأنشطة الصناعية ومنها المصانع الحربية في عهد الخديوي إسماعيل.
ما تبقى من الفسطاط من آثار تتضمن جامع عمرو بن العاص، ومسجد عابدي بك، وجامع المرحومي، ومدرسة وجامعة السويدي، وجامع ومدفن سليمان باشا الفرنساوي. ومع ذلك لم تندثر الفسطاط بل تحول اسمها إلى مصر القديمة وتم إعمارها مرة أخرى وتوسعتها، كما شهدت تعايشًا سلميًّا بين المسلمين والنصارى واليهود، وما يؤيد ذلك عدد من الكنائس التي ما زالت موجودة حتى اليوم.
المصدر: