قال الله تعالى: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ *إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) سورة الكوثر (1-3). وهذه السورة مكية.
- وحادثة نزول هذه السورة كما يرويها أني بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أغفى إغفاءة، فرفع رأسه مبتسما، إما قال لهم وإما قالوا له: لم ضحكت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنه أنزلت علي آنفا سورة ". فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم (إنا أعطيناك الكوثر) حتى ختمها، قال: " هل تدرون ما الكوثر؟ "، قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: " هو نهر أعطانيه ربي عز وجل في الجنة، عليه خير كثير، ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد الكواكب، يختلج العبد منهم فأقول: يا رب، إنه من أمتي. فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) رواه أحمد
- وقيل إن سبب نزول هذه السورة هو: أنّ العاص بن وائل السهمي رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخرج من المسجد، فالتقيا عند باب بني سهم، وتحدّثا، وأُناس من صناديد قريش جلوس في المسجد، فقالوا: من الّذي كنت تتحدث معه. قال: ذلك الأبتر، وكان قد توفي قبل ذلك عبد الله بن رسول الله وهو من خديجة، وكانوا يسمون من ليس له ابن أبتر، فسمته قريش عند موت ابنه أبتر، ومبتوراً أنزل الله سبحانه ﴿ سورة الكوثر).
- فالكوثر نهر من أنهار الجنة هذا خاص للنبي محمد صلى الله عليه وسلم ولأمته وهذا النهر حصاه من اللؤلؤ وترابه المسك، ماؤه أبيض من اللبن وأحلى من العسل، وقيل من معاني الكوثر: الخير الكثير، وقيل هو حوض في الجنة.
-فقوله تعالى: (إنا) تدل على عظمة المعطي والمُعْطَى، فالمعلوم أنّه إذا كان المعطي كبيراً، كان العطاء كثيراً. وجمع ضمير المتكلم، وهذا فيه دلالة على عظم الربوبية لله تعالى.
- وقوله تعالى: (أعطيناك الكوثر) فقد عبّر القرآن الكريم عن العطية بالماضي في قوله (أعطيناك) رغم أن الكوثر مكانه في المستقبل، وذلك لأنّ المُتوقَّع من الله الكريم، تحقق العطية على وجه القطع والجزم.
- كما جاء بالكوثر محذوف الموصوف، لأنّ المثبت ليس فيه ما في المحذوف من فرط الإبهام والشياع.
- والمقصود بالكوثر هنا: هم أولاده حسماً للشبهة، وقطعاً لدعوى الخصم.
أما قوله (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) يعني فكما أن الله تعالى سيكرمك في الآخرة وسيعطيك الكوثر فعليك بإخلاص العبادة له والتي تتمثل في الصلاة، ولذلك جعلت قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم هي الصلاة.
- فقوله (فصلّ) عَقَّب إبهامه الكوثر، بالفاء، ليكون دليلاً لمعنى التسبيب، لأن العطاء الأكثر، يستلزم الشكر الأوفر.
- وقوله (لربك): قال: "لربك" ولم يقل "لن"، فصرف الكلام عن لفظ المضمر إلى لفظ المظهر، إظهاراً لكبرياء شأنه، وإنافةً لعزّ سلطانه. ومنه أخذ الخلفاء قولهم: يأمرك أمير المؤمنين بالسمع والطاعة، وينهاك أمير المؤمنين عن مخالفة الجماعة.
وعلّم، بالأمر بالصلاة للرب، أنّ مِنْ حَقِّ العبادة أن يَخُصَّ بها العبادُ ربَّهم ومالكهم، ومن يتولى معايشهم ومهالكهم. وعرّض بخطأ من سفّه نفسه، ونقض لبّه، وعبد مربوباً، وترك عبادة ربّه.
- فهذه الآية الكريمة فيها تثبيت قدمي رسول الله على صراطه المستقيم وإخلاصه العبادة لوجهه الكريم.
- وأنحر: أي ليكن نحرك ونسكك لله تعالى والمقصود هنا الذبح لله سواء كان هدي أم أضحية.
- والحكمة من إشارته بالأمر بالنحر، بعد الأمر بالصلاة، بيان أن العبادة منها ما هو بدني كالصلاة، ومنها ما هو مالي، ونحر البدن سنامُها.
- وقال: "وانحر"، ولم يقل "وانحر له"، رعايةً لفواصل الآيات، وهو أمر مطلوب إذا سيق المتكلم، إليه، بلا تكلّف.
- وأما قوله: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) فالشائن هو المبغض والعدو والمقصود به هنا أبو لهب الذي كان يقول أن محمد أبتر أي ليس له أولاد فعندما مات ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب أبو لهب إلى المشركين وقال: بتر محمد الليلة. فأنزل الله في ذلك (إن شانئك هو الأبتر).
- فقوله تعالى (إن شانئك) ذكره بوصفه لا باسمه، ليتناول كلّ من كان مثل حاله. وأعرب بذلك عن أنّ عدوه لم يقصد بوصفه بالأبتر، الإفصاح بالحق، ولم ينطق إلاّ عن الشنآن الّذي هو توأم البغي والحسد، وعن البغضاء الّتي هي نتيجة الغيظ، فبذلك وسمه بما ينبئ عن المقت الأشدّ، ويدلّ على حنق الخصم الألدّ.