هذه الآية رقم ( 15 ) من أوائل سورة البقرة ، والتي افتتحت بالحديث عن أقسام الناس عند الله تعالى وأنهم في الدنيا ثلاثة أقسام :
1.المؤمنين المفلحين وذكر في شأنهم 5 آيات .
2. الكافرين المعلنين بكفرهم ، وذكر في شانهم آيتين .
3. المنافقين المظهرين للإيمان والمبطنين للكفر ، وذكر في شأنهم أكثر من 13 آية .
قال تعالى ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون ، الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون ).
سبب النزول :
وقد روي في سبب نزول هذه الآيات عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : عن ابن عباس : نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي وأصحابه ، وذلك : أنهم خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال عبد الله بن أبي : انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم ، فذهب فأخذ بيد أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - فقال : مرحبا بالصديق سيد بني تيم ، وشيخ الإسلام ، وثاني رسول الله في الغار ، الباذل نفسه وماله . ثم أخذ بيد عمر - رضي الله عنه - فقال : مرحبا بسيد بني عدي بن كعب ، الفاروق القوي في دين الله ، الباذل نفسه وماله لرسول الله . ثم أخذ بيد علي - كرم الله وجهه - فقال : مرحبا بابن عم رسول الله وختنه ، سيد بني هاشم ما خلا رسول الله . ثم افترقوا . فقال عبد الله لأصحابه : كيف رأيتموني فعلت ؟ فإذا رأيتموهم فافعلوا كما فعلت فأثنوا عليه خيرا . فرجع المسلمون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبروه بذلك . فأنزل الله هذه الآية .
أما تفسير الآية :
فبعد أن ذكر الله شيئا من نفاقهم وأنهم يظهرون الإسلام إذا لقوا المؤمنين خوفا منهم ومن سيفهم وطمعا في دنياهم ، وإذا خلوا إلى شياطينهم - والأرجح انهم من الإنس كاليهود - أظهروا ما أبطنوا من الكفر وأبانوا عن حقيقتهم بأنهم يستهزئون بالمؤمنين بحسب ظنهم .
فبين الله الحقيقة والواقع وهو أنه هو من يستهزئ بهم ، ويتركهم فيما هم من الطغيان والعماية والضلالة يعمهون يعني يضلون ، فالعمه من الحيرة والضلال .
يبقى المعنى الدقيق لاستهزاء الله بهم والسؤال الذي يساله بعضهم هل يصح نسبة الاستهزاء إلى الله ؟
والجواب باختصار : أن هذه الصفات يسميها العلماء من الصفات المتقابلة التي تعد مدحا إذا ذكرت على هذا الوجه فقط ، ولا يصح ذكرها على وجه الإطلاق كوصف الله أنه يستهزئ أو مستهزئ حاشاه سبحانه، فهي بهذا الوجه تكون صفة قبيحة فيها ذم .
أما لما يذكر الاستهزاء في مقابل الاستهزاء ، فيقال فلان يستهزئ بمن استهزء به ، أو فلان يخدع من خدعه فمثل هذا يعد صفة مدح لهذا الإنسان تدل على قدرته وتدبيره وقوته وأنه لا يخدع ولا يغلب ، وهكذا القول في هذا الصفة في حق الله ولله المثل الأعلى .
فاستهزاؤه سبحانه إنما جاء في مقابلة استهزاء المنافقين بالمؤمنين بحسب ظنهم لا أنه مطلق ، فهو بهذه الصفة صفة مدح وقوة لله تدل على علمه وقوته .
أما كيف يستهزئ الله بالمنافقين فما ختم به نفس الآية يوضح ذلك من أنه يزين لهم ما هم فيه من الضلالة والغواية والنفاق ، حتى يظنوا أنفسهم على حق وفلاح وفوز وأنهم وصلوا إلى مرادهم ومبتغهم من خداع المؤمنين وتحقيق مصالحهم بحقن دمائهم ، وفي الواقع أن الله يستدرجهم بذلك حتى إذا أخذهم لم يفلتهم وجعلهم في الدرك الأسفل من النار وكفى به خسارة وعقوبة .
وقد بين الله أيضا شيئا من استهزائه به يوم القيامة كما ورد في سورة الحديد:
( يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باطن فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ، ينادونهم الم نكن معكم قالوا بلى ولكنم فتنتم انفسكم وتربصتم وارتبتم ..) ( الحديد 13، 14 )
ففقدوا النور في لحظة هم في امس الحاجة إليه ، وكفى بهذا استدراجا ، نسأل الله العافية .
والله أعلم