هذه الآية هي الآية رقم (101) من سورة المائدة وهي قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) .
ومعنى هذه الآية - والله أعلم - أن الله ينهى عباده المؤمنين عن تكلف البحث عن أجوبة لأسئلة لا مصلحة لهم من سؤالها ومعرفة جوابها ، إذ لن ينبني على ذلك السؤال عمل نافع أو مصلحة في دينهم أو دنياهم ، بل قد يكون في معرفة أجوبة هذه الأسئلة ما يسؤوهم ويكلفهم ما فيه مشقة عليهم ، ولو كان في معرفتها لهم منفعة أو عمل لبينها الله سبحانه فهو أدرى بمصلحة عباده وما ينفعهم وما يضرهم .
وهذه الأسئلة وهذا النهي بعضه كان مقتصرا على زمن الوحي وبعضه يشمل ما بعد ذلك:
- فالنهي المقتصر على زمن الوحي هو ما كان فيه خشية أن يشدد الله على عباده فيه نتيجة كثرة مسألتهم وتنطعهم في السؤال ، كما حصل مع بني إسرائيل لما تنطعوا في أسئلتهم عن البقرة التي أمروا بذبحها فشدد الله عليهم وشق عليهم في الجواب.
روى الترمذي والدارقطني عن علي رضي الله عنه قال : لما نزلت هذه الآية ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا . قالوا : يا رسول الله أفي كل عام ؟ فسكت ، فقالوا : أفي كل عام ؟ قال : لا ولو قلت نعم لوجبت ، فأنزل الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم إلى آخر الآية .
وأخرج الدارقطني أيضا عن أبي عياض عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أيها الناس كتب عليكم الحج فقام رجل فقال : في كل عام يا رسول الله ؟ فأعرض عنه ، ثم عاد فقال : في كل عام يا رسول الله ؟ فقال : ومن القائل ؟ قالوا : فلان ; قال : والذي نفسي بيده لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ما أطقتموها ولو لم تطيقوها لكفرتم فأنزل الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم الآية .
ومثل هذا النهي السؤال عن أمور عفا الله عنها من أمور الجاهلية ولم يحاسبهم عليها أو ينهى عنها كما قال الحسن البصري في هذه الآية : سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أمور الجاهلية التي عفا الله عنها ولا وجه للسؤال عما عفا الله عنه .
وفي الحديث المتفق عليه ( دَعُونِي ما تَرَكْتُكُمْ، إنَّما هَلَكَ مَن كانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ علَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عن شيءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وإذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا منه ما اسْتَطَعْتُمْ ) .
وإنما قلنا إن هذ النهي مقتصر على زمن الوحي ، لأنه بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام كمل الدين وانقطع الوحي ، فلم يعد يخش أن ينزل وحي بالتشديد جزاء على تنطع الناس بأسئلتهم ، فلو سأل إنسان في زمننا سؤالا وكان قاصدا لمعرفة الحكم الشرعي فلا يقال له هذا تنطع أو منهي عنه .
" قال ابن عبد البر : السؤال اليوم لا يخاف منه أن ينزل تحريم ولا تحليل من أجله ، فمن سأل مستفهما راغبا في العلم ونفي الجهل عن نفسه ، باحثا عن معنى يجب الوقوف في الديانة عليه ، فلا بأس به ، فشفاء العي السؤال ; ومن سأل متعنتا غير متفقه ولا متعلم فهو الذي لا يحل قليل سؤاله ولا كثيره " ( الجامع لأحكام القران للقرطبي )
- أما النهي الذي يشمل ما بعد زمن النبوة أيضا ، فهو المسألة عن أشياء لا منفعة فيها ولا مصلحة تنبني على معرفتها ولا عمل ، كافتراض مسائل فقهية لا تقع ثم البحث عن أجوبة لها ، أو التنطع في مسائل القدر أو غير ذلك .
عن أنس قال ، قال رجل : يا نبي الله ، من أبي ؟ قال : أبوك فلان قال فنزلت يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم الآية ،
و عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه : فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا فقام إليه رجل فقال : أين مدخلي يا رسول الله ؟ قال : النار . فقام عبد الله بن حذافة فقال : من أبي يا رسول الله فقال : أبوك حذافة ..)
"قال ابن عبد البر : عبد الله بن حذافة أسلم قديما ، وهاجر إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية ، وشهد بدرا وكانت فيه دعابة ، وكان رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم ; أرسله إلى كسرى بكتاب رسول الله صلى الله عليه سلم ; ولما قال من أبي يا رسول الله ; قال : أبوك حذافة قالت له أمه : ما سمعت بابن أعق منك آمنت أن تكون أمك قارفت ما يقارف نساء الجاهلية فتفضحها على أعين الناس ! فقال : والله لو ألحقني بعبد أسود للحقت به " ( الجامع لأحكام القران للقرطبي) .
ثم قال القرطبي : " قال ابن عون : سألت نافعا عن قوله تعالى لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم فقال : لم تزل المسائل منذ قط تكره .
روى مسلم عن المغيرة بن شعبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنعا وهات وكره لكم ثلاثا : قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال .
قال كثير من العلماء : المراد بقوله ( وكثرة السؤال ) التكثير من السؤال في المسائل الفقهية تنطعا ، وتكلفا فيما لم ينزل ، والأغلوطات وتشقيق المولدات ، وقد كان السلف يكرهون ذلك ويرونه من التكليف ، ويقولون : إذا نزلت النازلة وفق المسئول لها .
قال مالك : أدركت أهل هذا البلد وما عندهم علم غير الكتاب والسنة ، فإذا نزلت نازلة جمع الأمير لها من حضر من العلماء فما اتفقوا عليه أنفذه ، وأنتم تكثرون المسائل وقد كرهها رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
وفي الحديث عن أبي ثعلبة الخشني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها وحرم حرمات فلا تنتهكوها وحدد حدودا فلا تعتدوها وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها "
والله أعلم