هذا السؤال صعب على قلبي. فكأنك تدفعني لاختيار أحب أطفالي إلى نفسي، وهذا من غير الممكن لمن اعتاد على القراءة من نعومة أظفاره. وكان ذهابي إلى المكتبة هو نوع من الاحتفالية العظيمة، التي أكررها مرتين اسبوعيًا. فأقوم باستعارة الكتاب والتهام كلماته كما الجوعى. وحضوري لمعارض الكتب كمن يتحضر للعيد باحتفالياته وعاداته الممتعة.
ابتدأت هذه الأحداث منذ السنوات الأولى، فلم يكن منزلنا يخلو من الكتب والجرائد. ووضع بعضها في مكتبة ابي على مستوى طولي، وقد كان ذلك مقصودًا من قبل والديّ، لأتناول ما تلمسه يداي، وأبدأ أعبّ منه علمًا. لكن مرحلة الوعي الحقيقة بدأت حقًّا في الصف الخامس والسادس؛ حيث ما قبلها كانت قراءة للمتعة وتضييع الوقت، لروايات أجاثا كريستي، وقصص المكتبة الخضراء. في الصفين السابقين قرأت السيرة النبوية لابن هشام، وفي ظلال القرآن لسيد قطب، ثم بدأ بعدها التوجه لكتب خالد محمد خالد؛ والذي شغفتني كتابته حُبًا، بسلاسة الأفكار ودقة التشبيهات وعذوبة القول. وعرّجت على عبقريات العقاد وكتب مصطفى محمود.
ثم ابتدأ الجد في قراءة الكتب السياسية والتاريخية المحفوفة بالأحداث المختلفة، فتعرفت على عبد السلام عارف وعبد الكريم قاسم ونوري السعيد، وقرأت تاريخ الثورة العربية الكبرى، ووقائع الحقبة الراشدية والأموية والعباسيّة. انطلقت بعدها لكتب الشعر والنثر، فتعلقت قلبًا وقالبًا بها. عندها بلغت مرحلة الانتقاء للكتب التي أود اقتناءها أو تسميتها ليشتريها والدي بكل صدر رحب؛ مع مشاركته طبعًا في كتبه المتنوعة لمدن الملح لعبد الرحمن منيف، والجريمة والعقاب لدوستويفسكي مرورًا بمعشوقتي مجلة العربي التي لازلت أملك بعضًا منها.
وعندما تزوجت بنيت مكتبتي الخاصة، وبدأت بجمع الكتب التي أهواها. فلدي كتب لسعد الورداني، محمد خير العمري، ورضوى عاشور، وأليف شافيق، وهمنغواي، وباولو كويلو، وغيرهم الكثير من العظماء طبعًا مع حفظ الألقاب. كما تعج مكتبتي بكتب العلوم والكيمياء والفيزياء، وكتب علم النفس وعلوم التربية والتدريس، وبالطبع مجلة العربي التي لا غنى عنها أبدا.
هؤلاء هم أولادي، ولن أستطيع أن أفرق بينهم. ولا بد لك انك استنتجت أن شخصيتي عبارة عن تمازج تلك الكتب في خليط متآلف عجيب، يعرض الرواية والقصة والسيرة الذاتية والسياسة والدين والعلوم. فالثقافة التي اكتسبتها هي ثقافة عبقت من أمهات الكتب، ومن عبق التاريخ، ومن تلافيف الماضي والحاضر.