لقد كانت أراضي اليونان في العهود التاريخية القديمة منبعاً للعلوم والحكمة، حيث وضع قدامى اليونانيين أسساً متينة للفلسفة والمنطق والإدارة، ولا تزال اكتشافاتهم واختراعاتهم في ميادين الرياضيات والفيزياء والفلك قاعدة تنطلق منها العلوم الحديثة بشتى تشعباتها. هذا وقد كان اليونانيون من أوائل الشعوب التي اقتبست نظام الكتابة الأبجدية عن الفينيقيين بحكم العلاقات التجارية الوثيقة بين الطرفين، وقاموا بتعديل الحروف الفينيقية لتصبح ملائمة لكتابة اللغة اليونانية، مما سهّل تدوين المعارف والآداب والعلوم بلغتهم ونشرها. ومن ثم انتشر اليونانيون في العصر الهلنستي عبر حوض البحر المتوسط وعن طريق المسالك البرية في رقعة واسعة للغاية من الأرض، شملت بلاد الشام ومصر ووصلت دائرة تأثيرهم الحضاري إلى أماكن بعيدة كالهند مثلاً. وبذلك فقد رسخوا ثقافتهم الخاصة وزاوجوها بالثقافات المحلية، مع تشجيع الشعوب التي سيطروا عليها على التعرف على اللغة اليونانية والفكر اليوناني. وفي المرحلة التاريخية اللاحقة، نهضت الإمبراطورية الرومانية التي اعتمدت اللغة اللاتينية في بعض الجوانب الإدارية، لكن ذلك لم ينتقص من شأن اليونانية، بل ظلت مستخدمة جنباً إلى جنب مع اللاتينية واللغات المحلية، لا سيما في القسم الشرقي من الإمبراطورية الرومانية الذي يُشار إليه بمصطلح "الإمبراطورية البيزنطية" في العصور الوسطى التي عقبت انقسام الحكم الروماني وغروب شمس الإمبراطورية الرومانية الغربية. ولا ننسى أن اللغة اليونانية كانت لغة أساسية للديانة المسيحية، فقد دونت بها الكتب الدينية وغدا تعلمها ضرورة للتبحر في هذا الميدان الواسع. وهكذا نجد أن اللغة اليونانية تربعت على عرش العالم القديم، وقد صبغت العديد من اللغات الأخرى بصبغتها، فالكلمات ذات الأصل اليوناني موجودة حتى اليوم في لغات عديدة ومنها اللغة العربية.
19 مشاهدة
