الحكمة من ذلك ذكرها الله تعالى في كتابه وهي وجود مسلمين مستضعفين لم يستطيعوا الخروج من مكة والهجرة لم يكن يعرف عنهم المسلمون، فلو حصل قتال وقتها وقد كانت قريش مستعدة وجيش المسلمين لم يكن بالجيش الكبير وقتها، لحصل قتال عنيف عند الكعبة، وأدى ذلك إلى قتل بعض المسلمين المستضعفين على يد المسلمين لأنهم لا يعرفونهم ولا يعلمون حقيقتهم.
وقد في كان في علم الله تعالى أنه سيزداد عدد المسلمين خلال سنتين وتعظم قوتهم، فيدخلون مكة دون مقاومة تذكر من قريش، وهو ما كان بحمد الله في العام الثامن للهجرة، حيث جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه 10000 مقاتل، بعد نقض قريش لصلح الحديبية، وإعانتهم بني بكر على خزاعة التي دخلت في حلف رسول الله، فنهض رسول الله مع جيش كبير من المسلمين ودخلوا مكة فاتحين ولم يرق دماء كثيرة في ذلك.
فكانت المصلحة والحكمة الربانية في عصمة دماء المسلمين وتحقيق المقصود من فتح الكعبة وتحريرها من رجس الكفار بأعظم وأبهى صورة، فأنجز الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده!
قال تعالى في سورة الفتح التي نزلت في قصة الحديبية (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ۚ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ ۖ لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ ۚ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25))
قال الطبري في تفسير قوله (وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ):
"ومعنى الكلام: ولولا أن تطئوا رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم، فتصيبكم منهم معرّة بغير علم لأذن الله لكم أيها المؤمنون في دخول مكة، ولكنه حال بينكم وبين ذلك".
وبين الله في آخر الآية: أنه لو تمايز المسلم عن الكافر في مكة لعذب الذين كفروا بأيدي المؤمنين وسيوفهم عذاباً أليما بالقتل والأسر.
وقد أشارت الآية إلى حكمة أخرى: من تأخير الفتح وهي أن يكون هناك فرصة ومهلة ليدخل في دين الله من أراد الله هدايته وكان ذلك في علم الله، فدخل بعد صلح الحديبية في الإسلام كثير من رجال قريش المعدودين كخالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة،
وهو ما أشار الله إليه بقوله (ليدخل الله في رحمته من يشاء).
ويمكن أن نلتمس حكمة أخرى: وهي تعظيم الكعبة والحفاظ على هيبتها وعدم سفك الدماء فيها، فلو حصل قتال في الحديبية لسالت دماء كثيرة في الحرم ولربما نفر ذلك العرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت حكم الله بأن أخر الفتح ليكون بأقل دماء تذكر فيتحقق المقصود دون مفسدة أعظم.
والله أعلم