عليّ القول أن كل جزء من أجزاء فيلم الجوكر له مذاقه الخاص. وكأنك في كل مرة تجدد قصة مدينة جوثام بقصة مختلفة، تجمع نفس الأشخاص، نفس المشاهد، نفس الأسماء، لكن بنكهة مختلفة. وبالرغم من تعدد شخصيات ونكهات الجوكر، إلا أن الفيلم الأخير جاء في صورة بوهيمية لثنائية الخير/ الشر، فسقط في نظري. جسد في عام الذي الممثل الكوميدي سيزار روميرو الجوكر عام 1966، لكن إجرامه كان مضحكًا وهزليًّا، حيث بدا كمهرج بسيط غير قادر على قتل أحد أو حتى إيذائه جسديًّا، فقط بعض السرقات من هنا وهناك، لذا بدا الدور ضحلًا، مما استدعى فيما بعد إعادة تكوين الشخصية من الصفر لجذب الجماهير لها.
أما جاك نيكلسون ذو الضحكة الساخرة وحركات الوجه المضحكة المخيفة أو جوكر 1989 استطاع زرع كره الجوكر وحب باتمان في قلوبنا من خلال الربط ما بين الجانب الإجرامي والكوميدي الهزلي، بينما قام هيث ليدجر بإقامة بعد مختلف معقد الملامح والتركيب، صنه شخصية إجرامية دموية مجنونة لا أبالية، ذات صوت مميز وكأنه ينفخ الكلمات في أذنك بشكل مستفز مقزز، مع القليل من الكوميديا السوداء التي جعلت هيث ليدجر "عميل الفوضى" يحصل على الأوسكار بعد وفاته الحقيقية. كانت وظيفة الجوكر إضفاء بعدٍ إنسانيٍّ لها، بل وفلسفيا حول مفهوم الخير والشر في العالم.
كل ما سبق جعل خواكين فينكس يبتدع لونًا آخر للجوكر. لون جعل الجماهير تتواطأ وتحب الجوكر نصير الفقراء والمحتاجين. أي أن الأدوار بدأت بالانقلاب على عقبيها، بحيث تعطي الحق للجوكر، الذي تعرض للضرب على رأسه من زوج أمه؛ الذي نكتشف أنها أمه بالتبني، ومن التنمر الشديد في كل مكان سواء في المدرسة أو العمل. يشعر الجوكر أو آرثر بأنه ممسحة أقدام لكل من يعتقد أنه أعلى منه، لتنتابه نوبات الضحك الهستيرية التي قد تكون بسبب إصابته بمرض التأثير البصلي الكاذب Pseudobulbar affect. ضحكات متفجرة متصاعدة على نكات بغيضة غير مضحكة البتة، مع اعتقاده بأنه مهرج جيد يحتاج فقط لفرصة ليكون نجمًا لامعًا يومًا ما.
هذا ما يجعل الآخرين يتجنبونه في أفضل الأحوال، أو ضربه ضربًا مبرحًا لإسكاته في أسوء الأحيان. في النهاية، يقرر آرثر أو الجوكر أن ينتقم لذاته، ليخرج مسدسًا ويقتل ثلاثًا ممن يروعونه. هنا يحدث تحول دامٍ في سياقات الفيلم، ليشعر آرثر"الجوكر" بالنشوة والنصر، ومقابلة العنف بعنف أقوى منه. هذه التجليات القبيحة تُظهر في الفيلم حقيقة المجتمع في جوثام أو حتى نيويورك في الحقيقة. مجتمع يرفع من قيمة الطبقية الفجة، مجتمع ينطوي على نفسه عند الحاجة ليتغذى على قوت الفقراء بمواجهة فُحش ثراء الغنياء، مع انعدام الطبقة الوسطى وانسحاقها في هذه الدوامة.
وفي نفس المدينة سياق آخر مختلف، سياق " بروس واين" الطفل الغني المدلل، الذي يعيش وسط أسرة محبة في قصر فخم بعيدًا عن أطلال مدينة جوثام المظلمة. أما آرثر، فلا يعرف والده، مما ترك فراغًا عميقًا في روحه حاول تعويضه باتخاذ مثل أعلى له مثل موراي فرانكلين، ثم يكتشف بالصدفة رسالة من والدته لتوماس واين االغني تدعي بها أنه والد آرثر. ليُظهر كُرهًا أكبر لأخيه غير الشقيق بروس، الذي يعيش في الثراء الفاحش عكس حياته الأشبه بالمستنقع.
هنا يمكننا أن نرى ما وراء سطور القصة، الصراع ما بين الرأسمالية الحديثة وسياساتها النيوليبرالية، التي تجعل رؤوس الأموال والصلاحيات غير المحدودة في يدي بضعة أشخاص يقومون بإدارة الدولة وفق قوانينهم غير المكتوبة التي تجتبي مصالحهم، وما بين عامة الناس المطحونين من تهالك الدولة وتساقطهم أسفل الهرم الاجتماعي. مما يجعل الكثير من العامة عاجزين عن إيجاد وظيفة تلملم قوت يومهم، وتستر هوانهم. هنا يظهر الجوكر آرثر، ليتعاطف معه مهمشي جوثام بالرغم من فعله الشرير الذي لا يمكن أن يوافقه أحد عليه، لكن مع الواقع المرير لا أحد يكترث للحقيقة، كل مجموعة في جوثام تتحلق حول منتسبيها، بإسقاط مفهومه الخاص بالعدل على المواقف.
لذا يصبح بروس واين بطل الأقلية الثرية، الذي يطوّع وسائل الإعلام التي يمتلكها في صالحه، ويصبح آرثر الجوكر هو مخلص الجماهير المهتاجة التي تشجع الدموية والعنف لكسر شوكة هذا النظام الظالم في هذه المدينة المظلمة. الجوكر هو رسول خلاصهم، هو فارس الظلام وملك الفوضى الذي يحاول تدمير النظام الطبقي الذي لن ينتهي حتى لو انتهى الصراع بين باتمان والجوكر، فالقوى الخفية المتجاذبة بين الطرفين لن تنتهي بموت أحد أطرافها. ولهذا، نجد أن هدف الجوكر الحقيقي تدمير النظام الذي يحمي باتمان وليس باتمان نفسه.
في الحقيقة واجه الفيلم العديد من الانتقادات، وأنا مع العدالة الاجتماعية لكن وفق القانون. فلا أقتنع بمضمون الغاية تبرر الوسيلة، وإلا أصبحنا وحوشًا في غابة مفترسة. نحن نضع القوانين لننفذها لا لنخترقها. لن أقول إنني بدايةً لم أتعاطف مع الجوكر، بل آلمتني أوجاعه ساعة التنمر عليه. لكنني لن أقبل أن أعظّم شخصية سيكوباتية سوداء حتى ينفذ أجندته الخاصة. علينا نحن كبشر أن نلتزم قواعد اللعب النظيف، حتى لو تكن النتيجة كما نرغب، فهذه أنانية مفرطة، قد يضيع في وسطها من يؤمن بالقانون والقواعد في مواجهة التصرفات اللاأخلاقية.
للأسف، أجد النسخة الأخيرة من الفيلم، بالرغم من جودتها، وقوة شخصياتها الرئيسة والمحورية، تدعو للفوضى، والضرب بيد من حديد، دون اللجوء للقانون. أجد تقديس الشر ملاصقًا لمفهوم العدل، ودعوة للتعاطف مع شخصية الشيطان، بل وتبرير تصرفاته الدنيئة من قبل جمهور المضطهدين. وبالتالي دعوة مفتوحة لكل شخص يجد نفسه مهمشًا مظلومًا أن يدفع بنفسه إلى الجحيم، ويبيع روحه للاقوانين، ويأخذ حقه بيده دون أدنى خوف أن يلقى حتفه ويأخذ في طريقه من يمنع عنه ذلك. هذا الجوكر هو انعكاس للعصر الحالي، وقد تم اقتطاعه بشكل موضوعي من عناوين جرائم القرن الحادي والعشرين. تتضمن هذه العناوين عدم المساواة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية - هي مركز الصدارة، وفجوة الثروة الآخذة في الاتساع. والعار جراء المرض النفسي والعلاقة بين الصحة النفسية والعنف، والطبقية والاحتجاج والعصيان.
كل جوكرجسّد عنصر من عناصر الفوضى التي يخشاها الجمهور، كان جوكر جاك نيكلسون يمثل ثورة القُصر والمراهقين في زمن الثمانينات، وظهر جوكر ليث ليدجر كإرهابي روّع المدينة وجعل مراقبة السكان من أولويات الدولة، أما جوكر خواكين فينيكس فقد حارب مخلفات الثورات الصناعية المختلفة التي تمخضت عن مستويات طبقية مختلفة. ومع ذلك، يبقى جميع " الجواكر" يلتقون في نقطة واحدة: كلهم يمثلون انعكاس لمجتمعاتهم ومدنهم في أزمنة اختفاء الفضيلة.