"وَمَنْ هَابَ أسبابَ الْمَنايا يَنَلْنَهُ وإنْ يَرْقَ أَسبابَ السَّماءِ بِسُلَّمِ"
كان هذا البيت من المعلقة الثالثة من المعلقات السبع -أو العشر في بعض المراجع-، وقد كتبه الحكيم الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى وبه يختصر علاقتنا مع الموت؛ فمن خاف من الموت وحاول الهرب منه سيناله الموت حتى ولو صعد على سلم إلى السماء هربًا منه.
فبالنسبة لي الموت من سنن الحياة التي سيكون لي يومًا دورًا فيه أنا وكل شخص قد عرفته أو سأقوم بالتعرف عليه، والذين أحبهم أو أكرههم، والظالمون والصالحون، فلا أحد منا سيهرب من هذا القدر المحكم على بني آدم جميعهم، فقال تعالى: "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
أتعامل مع فكرة موتي شخصيًا كسبب لأكون شخصًا أفضل كل يوم؛ فأحاول على قدر استطاعتي تجنب إيذاء وجرح الناس والاعتذار للذين وقع حكمي الظالم عليهم، وأن أكون على أحسن صورة لي أمام الله وأمام خلقه. فلن يتبعني من هذه الدنيا إلى ذلك القبر الضيق إلا الأعمال الصالحة والدعوات الخالصة من عمق أفئدة كان وجودي في حياتهم بلسمًا.
وعدم معرفتي للميعاد الذي ينتهي فيه أجلي يجعلني أعيش كل لحظة كأنها الأخيرة؛ فلا أضيع وقتي وراحتي وأفكاري على توافه الأمور التي لربما لن يكون لها معنى بعد بضع ساعات، واستغل هذه الأيام في تحصيل أكبر كم من العمل الصالح لكي لا أقف بين أيدي الرحمن خَجْلى.
لكن هذا لا يعني أني أهمل المستقبل؛ فالسير في حياتنا سبهللًا سيجعل من حياتنا تضيع وتمضي بسرعة فيصبح ذلك الأجل البعيد قريبًا، ونكتشف أننا أهدرنا العديد من السنوات الطويلة والفرص الموهوبة لنا على انتظارنا لهذا الأجل. وعادة ما يعاني الأشخاص ذوي النظرة السوداوية اتجاه الموت من هذه المشكلة؛ فتجدهم يرفضون العمل لاحتمالية ضياعه كله لو كانت نهاية عمرهم قريبة، فتجدهم يصورون لك كيفية الجلوس في الأرجاء لانتظار الموت وهذا الوقت المهدور سنحاسب عليه بالتأكيد.
وكان وصف الشاعر زهير بن أبي سلمى لهذه الفكرة في محله في بيته:
"وأَعْلَمُ مَا فِي اليوْمِ والأمسِ قَبْلَهُ وَلَكِنَّنِي عَنْ عِلْمِ مَا فِي غَدٍ عَمِي"
واعترف أن نظرتي لانقضاء عمر من حولي خاصةً أحبتي أكثر حساسية بالنسبة لي؛ فأشعر كما لو أن الشخص الذي أحبه تركني وحيدة في هذه الدنيا، أحاول إصلاح الحياة من حولي دون نصائحهم وطبطبتهم التي لي حاجة ماسة لها في بعض الأحيان، ووجدت أن عادة ما يعاني الأشخاص الذين فقدوا أحبتهم من هذه الحالة.
أجد هذه الفكرة حزينة ومرهقة لروحي جدًا لكنها لا تبقى طويلًا عند تذكري أن المعتقدات الدينية التي أؤمن بها جعلت من الموت بداية كل شيء لا نهايته؛ فبين يده تعالى سنقف جميعًا يوم القيامة، وستكون جناته النعيم مسكننا أنا وأحبتي -وأحبتكم 💙- بإذنه تعالى. فاللهم اجعلنا ممن قلت فيهم: "الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ".
سيكون التعامل مع فكرة الموت من أصعب الأمور التي سنمر بها في حياتنا التي لن تتجاوز في معظم الحالات القرن الواحد، لكن يجب علينا تذكر أن موت من حولنا وموتنا نحن بحد ذاتنا ليس النهاية، يوجد تكملة في الحياة الآخرة لهذه القصة التي بدأناها في حياتنا الدنيا. آخر لقاء لأحبتك لم يكن آخر لقاء، ذلك الشخص الذي قام بظلمك لم ينفّذ بجلده ولم يتجنب الحساب على ما قدمته يداه.