شخصيتك لا تعرفينها من خلال الوجه والشفاه ، وإنما تعرفينها من داخلك ! ولست بحاجة إلى النظر في المرآة وفي شكل وجهك لتعرفي شخصيتك !
وما يقال عن الاستدلال بالشكل على الخُلق والشخصية وهو ما يسمى " علم قراءة الوجه" ، فهي لا تعدو أن تكون ظنون لا تستند إلى أمر ثابت في الواقع لذلك لا يتلفت لها كثيرا ولا يعتمد عليها، فقد تصيب وقد تخطئ وكثيرا ما تخطئ ، ثم هي لا تدل على أمر ثابت في شخصية الإنسان لا يمكن تغييره ، بل قد يكون ما ذكر حقا ولكن باستطاعتك تغييره .
وفرق بين الاستدلال شكل الوجه الخلقي على شخصية الإنسان وخلقه ، وبين الاستدلال بالسيما أو تعابير الوجه التي تطرأ عند تصرف معين على أمر في باطن الإنسان وحقيقته ، فالاستدلال بسيما الإنسان وتعابير وجهه وكلامه - أو ما قد يسميه البعض قراءة ما بين السطور - لما قال سبحانه في شأن المنافقين ( ولتعرفنهم في لحن القول ) ، وقال عن فقراء المهاجرين ( يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم ) ، وقال عن الصحابة رضي الله عنهم ( سيماهم في وجوههم من أثر السجود ) .
والاستدلال بالشكل على خلق والشخصية هو ما سماه ابن القيم رحمه الله " بالفراسة الخَلقية" ، حيث ذكر في كتابه مدارج السالكين أن الفراسة ثلاثة أنواع : إيمانية ، وفراسة رياضة ، وفراسة خلقية
ثم بين رحمه الله أن النوع الأول من الفراسة وهي " الإيمانية " سببها نور يقذفه الله في قلب عبده ، وقال في شأنها :
" وهذه الفراسة على حسب قوة الإيمان، فمن كان أقوى إيمانا، فهو أَحَدُّ فراسة.
وأصل هذا النوع من الفراسة : من الحياة والنور اللذين يهبهما الله تعالى لمن يشاء من عباده فيحيا القلب بذلك ، ويستنير ، فلا تكاد فراسته تخطىء ، قال الله : ( أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ، كان ميْتا بالكفر والجهل فأحياه الله بالإيمان والعلم ، وجعل له بالقرآن والإيمان نوراً يستضيء به في الناس على قصد السبيل ، ويمشي به في الظلم "
أما النوع الثاني من الفراسة وهي فراسة الرياضة والتي تعني رياضة النفس بإبعادها عن شهواتها وتدريبها على التركيز والنظر فيما وراء الأمور ، وقال عنها : " وهذه فراسة مشتركة بين المؤمن والكافر".
ثم بين رحمه الله أن هذه الفراسة ليست كثيرة الصواب وقال " وهي فراسة لا تكشف عن حق نافع، ولا عن طريق مستقيم، بل كشفها جزئي، من جنس فراسة الولاة، وأصحاب تعبير الرؤيا، والأطباء، ونحوهم. وللأطباء فراسة معروفة، مِن حِذْقهم في صناعتهم ".
أما النوع الثالث من الفراسة وهي "الفراسة الخَلْقية" وهي محل السؤال ، فقال عنها رحمه الله :
" وهي التي صنف فيها الأطباء وغيرهم ، واستدلوا بالخَلْق على الخُلُق ؛ لما بينهما من الارتباط الذي اقتضته حكمة الله ، كالاستدلال بصغر الرأس الخارج عن العادة على صغر العقل ، وبكبره وبسعة الصدر وبعد ما بين جانبيه : على سعة خُلُق صاحبه واحتماله وبسطته ، وبضيقه على ضيقه ، وبخمود العين وكلال نظرها على بلادة صاحبها وضعف حرارة قلبه ، وبشدة بياضها مع إشرابه بحمرة ، وهو الشكل ، على شجاعته وإقدامه وفطنته ، وبتدويرها مع حمرتها وكثرة تقلبها على خيانته ومكره وخداعه .
وأصل هذه الفراسة أن اعتدال الخِلْقَةِ والصورة هو من اعتدال المزاج والروح، وعن اعتدالها يكون اعتدال الأخلاق والأفعال، وبحسب انحراف الخلقة والصورة عن الاعتدال يقع الانحراف في الأخلاق والأعمال، هذا إذا خُلِّيَتِ النفسُ وطبيعتها..."
ولكن ابن القيم نبه بعد ذلك أن هذه الفراسة الخلقية لو صح ما نتج عنها فلا تدل على أمر ثابت لا يمكن تغييره او اكتسابه حيث قال في نفس الكتاب:
" ولكن صاحب الصورة والخِلقة المعتدلة يكتسب بالمقارنة والمعاشرة أخلاق من يقارنه ويعاشره ، ولو أنه من الحيوان البهيم ! فيصير من أخبث الناس أخلاقاً وأفعالاً ، وتعود له تلك طباعاً ويتعذر أو يتعسر عليه الانتقال عنها .
وكذلك صاحب الخِلقة والصورة المنحرفة عن الاعتدال يكتسب بصحبة الكاملين بخلطتهم أخلاقاً وأفعالاً شريفةً تصير له كالطبيعة ؛ فإن العوائد والمزاولات تعطي الملكات والأخلاق .
فليُتأمل هذا الموضع ، ولا يعجل بالقضاء بالفراسة دونه ؛ فإن القاضي حينئذ يكون خطؤه كثيراً ؛ فإن هذه العلامات أسباب لا موجبة ، وقد تتخلف عنها أحكامها لفوات شرط ، أو لوجود مانع " .
والله أعلم