لا تعارض بين الأمرين أبداً ، لأن العباد وإن كان لهم مشيئة واختيار يحاسبون عليها إلا أن هذه المشيئة والاختيار تابعة لمشيئة الله سبحانه وتحت إرادته ، فلا يشاء العبد إلا ما شاء الله له أن يشاءه .
فمشيئة العبد لا تعارض مشيئة الله وإنما هي تحتها وبإذنها .
وليس معنى هذا أن العبد مجبور على الاختيار ، بل الله تعالى أعطاه مشيئة يختار بها ، وبيَّن له طريق الحق من طريق الضلال والهداية من الغواية ، وأقام عليه الحجة ،وهذا البيان يستوي فيه جميع العباد ، وهي حجة الله على خلقه ووعده أنه لا يعذب إلا من قامت عليه الحجة.
قال سبحانه ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً ) ( الإسراء)
وقال سبحانه (رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) (النساء) .
ثم إذا كان هذا العبد صالحاً للهداية وراغباً فيها ومستحقاً لها وباحثاً عنها بتجرد وصدق وإخلاص تفضل الله عليه بالهداية ، فشرح صدره ونور قلبه وهدى عقله وفكره وأرشده إلى طريق الحق فاهتدى ، فهذا معنى أن العبد له مشيئة واختيار وأن هذه المشيئة تابعة لمشيئة الله .
وإذا كان العبد غير صالح للهداية وغير مستحق لها بما علم الله فيه ، وكان معرضاً عن طلب الحق والهداية معانداً للأدلة الظاهرة جاحداً للحق رغم تبينه له ، ساعياً وراء شهوته ورغباته وأهوائه ، فهذا الذي لا يتفضل الله عليه بالهداية والرشاد ، بل يبقيه ويتركه في ضلاله حائراً ضائعاً .
فالهداية نعمة من الله وفضل على من كان أهلاً لذلك بعلم الله ، والغواية والضلال هو ترك من الله لعبده وحرمان له من نعمة الهداية جزاءً على عناده وجحوده وسوء طويته بما علم الله فيه .
وهذه المسألة والخوض فيها هو مسائل القدر التي ينبغي على العبد ألا يخوض فيها كثيراً ويطلب التعمق ، لأن العقل يتيه ويضل بكثرة التعمق فيها ، وإنما الذي يريحه في هذا الباب قواعد عليه أن يضعها في قلبه وعقله وهي :
1. أن الله لا يظلم أحداً وقد حرَّم الظلم على نفسه سبحانه ، فلا يعذب إلا من قامت عليه الحجة وعاند ولم يكن أهلاً للهداية .
2. أن العبد له اختيار وإرادة وهو لا يشعر من نفسه أنه مضطر إلى اختيار معين ، وهذه الإرادة هي محل الثواب والعقاب .
3. أن الاحتجاج بالقدر لا يمكن أن يطرد ، وإلا فسد نظام الكون كله ، فكما أن فطرتنا ترفض جعل القدر حجة للسارق والقاتل والظالم على عدوانه واعتدائه ، فكذلك لا يكون القدر حجة للكافر أو العاصي على كفره .
والله أعلم