لعلّ جواب هذا السؤال يختبئ بين طيّات التاريخ، ولكي أستطيع استنباط تعبير وافي لفكرة الوسط الذهبيّ يجب علينا أن نبحر قليلاً في بحر الزمن.
ولعلّ وجهتنا الأولى سوف تكون على ضفاف مدينة أنطاليا لنسير قليلاً نحو معبد أبولو لنرى نقوش القواعد الدلفيّة الّتي ذكرت مفهوم الوسط الذهبيّ بقولها: أنّه يجب على المواطن الإغريقيّ أن "لا يأخذ شيئاً إلى حدّه الزائد" سواء كان ذلك في حياته اليوميّة أو خلال قضائه لأعماله، ومن هنا انبثق مفهوم الوسط الذهبيّ عند الإغريق، لنتمكّن من استكمال رحلتنا نحو مدينة أثينا حيث كان الفيلسوف أرسطو يخطّ كتاباته ليجمعها في كتابه تحت مسمّى "علم الأخلاق"، بحيث إنّه ابتكر فكرة الوسط الذهبيّ وعرفه بأنّه الفضيلة الّتي تمثّل السمات الشخصيّة للفرد الّتي يكتسبها عن طريق ممارسة الأعمال والاقتداء بنماذج جيّدة في حياته، وأنّ الفضيلة تعتبر الوسط الذهبيّ بين صفتين متناقضتين وحدّدها أرسطو في كتابه على شكل 11 صفة منها: الشجاعة، والاعتدال، والكرم، والبهاء والنبل، والصبر، والصدق، والكياسة، والمودّة، والحياء، والإنصاف حيث اعتبر هذه الصفات تشكّل صفات وسطيّة تفصل بين صفتين يعبّران إمّا عن الإفراط أو النقصان في الشيء، حيث استطاع أن يفرّق بين الفضيلة عن غير الفضيلة من خلال الوسط الذهبيّ والفضائل الّتي تجسّده.
ولعلّ هذه الفكرة فسّرت العديد من الظواهر الّتي تشكّل العديد من المجالات لدى الإغريق، وأبرزها الطبّ حيث استطاع الإغريق تبنّي فكرة الوسط الذهبيّ، وتطبيقها في الطبّ الابقراطيّ الّذي ينصّ على أنّ سوائل الأربعة في الجسم يجب أن يكون بينهم توازن وسطيّ حتّى يظهر الشخص سليماً، واستطاعوا تعريف المرض على أساس هذه الفكرة، بحيث فسّروه على أنّه هو أيّ اختلال في توازن هذه السوائل، وتمكّنوا أيضاً من ربط فكرة الوسط الذهبيّ في الفنون حيث إنّك عندما تتجوّل في حدائق أثينا تجد الفيلسوف سقراط يجسّد التوسّط في مثال يقارن فيه بين الموسيقى وممارسة الرياضة، حيث إنّه مقتنع بأنّ اقتناء هذه الموهبتين ينتج التناغم والجمال، وبناء على ذلك التوازن الّذي يخلق الإبداع.
عبر بحر أثينا يمكننا التحليق لنصل إلى جبال الصين، حيث يجلس الفيلسوف كونفيوشس ويكتب مخطوطاته الّتي يعبّر بحروفها عن الوسط الذهبيّ ويقول: "أنّ الفضيلة المقرّة في مذهب التوسّط هو من أعلى درجات الفضيلة لكنّه نادر جدّاً في الناس". وكذلك قال: "أنّ الزيادة كالنقصان، الحياة في الوسط."، بتلك الكلمات استطاع كونفيوشس ان يعبّر عن الفضيلة المقترنة بمفهوم الوسط الذهبيّ ووصفها بأعلى درجات الفضيلة واعتبارها نادرة وغير موجودة بكثرة في البشر.
ومن هنا نستطيع استنباط مفهوم فكرة الوسط الذهبيّ، فطالما سمعنا من آبائنا جملة "خير الأمور أوسطها"، تلك العبارة بشكل أو بآخر تعبّر عن مفهوم الوسط الذهبيّ الّتي ابتكرها الفيلسوف أفلاطون وتناقلتها الأجيال عبر العصور، حيث إنّه وضع الصفات في ميزان طرفاه النقصان، والتطرّف حيث إنّه عندما تتساوى كفتاه يحدث التوازن الّذي يخلق بينهم صفة وسطيّة وصفها بالفضيلة، ومن هنا يحثّنا مفهوم الوسط الذهبيّ على الاعتدال، والوسطيّة، والابتعاد عن الإفراط أو النقصان والتوسّط في الأشياء في حياتنا، لكي يغلب السلام والطمأنينة على مسار قدرنا.