تظهر الصفات السلوكية للبشرية على شكل صفات فردية، ثم كديناميكيات جماعية تقوم بصياغة الأخلاق البشرية وتصقلها، فالطبيعة الفطرية البشرية تميل لتبني الأخلاق سواء كانت سلوكًا قويمًا أم لا. كما علينا أن لا ننسى أن الدين يساهم في هذه الصياغة بالطريقة التي يقوّم بها منتسبيه باتباعها. فالدين متمم للأخلاق لا مصدر لها، ومنها الدين الإسلامي حيث قال رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ: ( إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق ).
تظهر الصفات الفردية للأخلاق كصفات غريزية فطرية عاطفية تظهر على الإنسان منذ ولادته مثل التعاطف، والشعور بالذنب، أو من خلال القدرات الإدراكية التي تشمل القدرة على المحاكمة العقلية وكبح اندفاعاتنا. بينما الديناميكيات الجماعية للأخلاق تتجه نحو التعاون والتنافس وكيفية تطوير المعايير والقواعد المجتمعية، مع ملاحظة تداخل الصفات الفردية والجماعية معًا.
أخلاق البونوبو ( نوع من القرود): بما أن الإنسان من الرئيسيات، فهل لدى الرئيسيات أخلاق مثلنا؟ ولماذا نميل للتصرف بشكل لأخلاقي؟ هل يتم التوصل للأخلاقيات من خلال عقولنا؟ هل الأخلاقيات موروثة أو موجودة في حمضنا النووي؟
تأتي القواعد من أعلى: الأخلاق من أعلى إلى أسفل ففي الحضارات الإنسانية كان منظور الأخلاق هو في قمة الطبيعة البشرية التي لا يمكن الوثوق بها لأننا وحوش أنانية. لذلك يجب أن يكون هناك قواعد لضمان حدوث سلوكيات تعاونية جيدة. وسواء كانت السلطة الأخلاقية أتت من الجانب الديني أو الفلسفي ( من أرسطو إلى كانط الذين وضعوا أسس تسمح للعقل بالتحكم بالأشياء الصحيحة وغير السويّة)، فالمهم هو أن النظريات تصوغ المبادئ والقواعد ثم يتم فرضها على السلوك البشري. ومن ضمنها الوصايا العشر؛ القاعدة الذهبية النفعية التي تؤكد على معاملة الناس بما تحب أن يعاملوك. كل هذه الأنظمة الأخلاقية تشترك في التوجه من الأعلى إلى الأسفل؛ فبدون القواعد المفروضة سنميل للفوضى وإثارة الشغب. أثارت هذه الفكرة الكثير من الإثارة والجدل، فليس من السهل العثور على مجموعة قوانين أخلاقية عالمية تناسب الجميع.
القواعد تأتي من الداخل: الأخلاق من أسفل إلى أعلى قام عالم الرئيسيات الهولندي فرانس دي وال في كتابه The Bonobo and the Atheist بوضع فكرته بقوله: "ربما أنا وحدي، لكني أحذر من أي شخص يكون نظام معتقداته هو الشيء الوحيد الذي يقف بينهم وبين السلوك البغيض. لماذا لا نفترض أن إنسانيتنا، بما في ذلك ضبط النفس اللازم لمجتمع صالح للعيش، مبنية فينا؟ ". يعترف دي وال أنه ينحاز لمشروع ديفيد هيوم الأخلاقي الذي صرح بأن العقل هو عبد العواطف، فيعتقد أن أخلاقياتنا لا تنبع من عقلانياتنا بل من عواطفنا.
في كتابه يهدف دي وال إلى دعم النظرية السابقة، ويعتقد أن المكونات الرئيسة للأخلاقيات البشرية لا تعتمد الطيعة البشرية والتفكير العقلاني بل تطورت كنبضات لزيادة التعاون والبقاء على الحياة بين مجموعة الثدييات. إن قوانينا الأخلاقية محدودة النطاق ومليئة بالثغرات، وكل ما تعلمه العلم عن الأخلاق يجادل ضد وجهة النظر المتشائمة القائلة بأن الأخلاق هي قشرة رقيقة فوق طبيعة بشرية سيئة. نحن نكافح لإيجاد إطار أخلاقي شامل لنا جميعًا، ودافعنا الأساسي لابتكار مثل هذه النظريات الأخلاقية لا يأتي من البصيرة المقدسة أو العقلانية الخاصة، ولكن من الحدس الاجتماعي والعاطفي الذي تطور على مدى آلاف السنين. إن مقاربة دي وال للأخلاق البشرية التصاعدية" من القاعدة للقمة"، والتي تحركها البيولوجيا الأخلاقية تشكل ثقل يوازن وجهات النظر للمقاربة الأخلاقية التنازلية" من القمة للقاعدة" وتعتبر عقلانية.
استطاع فرانس دوفال، مختص في علم الرئيسيات، مع زملائه إثبات وجود سلوك تعاطفي للرئيسيات، فالشمبانزي عدواني أكثر من البونوبو. وجماعة السعادين تصطاد لتأكل وتوفر الطعام لضعاف الجماعة والأفراد كبار السن منها. كما تحدث المواساة بين أفراد القرود والشمبانزي عند الشعور بالضيق. وهذا ما يحدث في الجماعات الإنسانية الذين هم أفراد ذوو قرابة مع الشمبانزي والبونوبو. فالتعاطف هو من ردود الأفعال الجسدية المرتبطة بمحاكاة أو تقليد للسلوك غير الواعي. هذا السلوك لا إرادي وغير واعي على الأغلب. تذكر شعورك عند رؤية شخص مصاب، أو شخص مبتسم. ويكون التعاطف قويًّا أثناء التقاربات المزاجية والتوافق العاطفي وحدوث العدوى له وخاصة في التجمعات والحشود الضخمة. كما يكون التعاطف كبيرًا في حال وجود تشابه مع الآخر، فبسبب قانون الانتقاء الطبيعي يحدث توازن ما بين التعاطف والعدوانية، والتنافس والتعاون. التعاطف ظاهرة إنسانية شائعة، ترتبط بالتأكيد بذكائنا المتقدم، مما يسمح لنا بفهم الأضرار أو الفوائد التي تؤثر على البشر الآخرين ، وكذلك المشاعر المرتبطة بهم.
القدرة على اكتساب الأخلاق ناتجة عن التطور التدريجي، لكنها تحتاج للوصول للقدرات الفكرية بدرجة متقدمة. فتظهر الشروط الضرورية للسلوك الأخلاقي بعد عبور عتبة التطور بحيث يصبح تكوين المفاهيم مجرد ويكون توقع المستقبل ممكنًا. تحدث العتبات التطورية الأخرى- مثل أصول الحياة وتعدد الخلايا والتكاثر الجنسي- وتطور التفكير المجرد والوعي الذاتي في العالم المادي أيضًا وبشكل تدريجي، ومن هنا نشأت القدرات الفكرية البشرية عن طريق التطور التدريجي.
تم تقديم العديد من التفسيرات لتطور الحس الأخلاقي ومنهم مؤيدي نظرية "التطور المشترك بين الجين والثقافة". حيث افترضوا أن التنوع الثقافي وسلوكيات الأخلاق قد تم اختيارها للجينات الممنوحة للبشر الأوائل كمشاعر أخلاقية بدائية لتسهل تطوير قوانين أخلاقية ثقافية فيما بعد. فتطور الأخلاق تم تعزيزه بشكل مباشر عن طريق الانتقاء الطبيعي في عملية تطوير الحس الأخلاقي والمعايير الأخلاقية معًا. قد يؤدي التطور المشترك بين الجينات والثقافة إلى نظام أخلاقي أكثر شمولية تقريبًا، والذي كان سيحدث تدريجيًا مع تطور أسلافنا البشريين تدريجيًا ليصبحوا إنسانًا عاقلًا.
يختلف السلوك الأخلاقي أي القدرة على الحكم عن الأخلاق بأنها طيبة أو شريرة، والقواعد الأخلاقية أي المبادئ أو القواعد التي يتم الحكم على الأفعال على أساسه. فالسلوك الأخلاقي هو سمة بيولوجية للإنسان العاقل، لأنه نتيجة ضرورية لتركيبتنا البيولوجية، أي ذكائنا العالي. بينما القواعد الأخلاقية، ليست نتاجًا للتطور البيولوجي بل هي نتاج تطور ثقافي. فلا يمكن لها أن تدوم طويلًا إذا كانت تتعارض مع تركيبتنا البيولوجية. وتعتبر مقبولة إذا عززت السلوكيات الأخلاقية تزيد من اللياقة البيولوجية لمن يتصرف بها مثل رعاية الأطفال. مع الانتباه أن ليس بالضرورة أن يكون هناك علاقة بين اللياقة البيولوجية والمبادئ الأخلاقية الشائعة في مجتمعاتنا، وبعض هذه المبادئ تتعارض مع صالح اللياقة البيولوجية.
إن القواعد الأخلاقية المقبولة غالبًا، أو على الأقل في بعض الأحيان، تعزز السلوكيات التي تزيد من اللياقة البيولوجية ( أي انتقال الجينات من جيل للجيل التالي وتتضمن الميزات المادية والسلوكية النفسية التي يمتلكها الأقارب) لأولئك الذين يتصرفون وفقًا لها ، مثل رعاية الأطفال. لكن العلاقة بين المعايير الأخلاقية واللياقة البيولوجية ليست ضرورية ولا هي الحال دائمًا: فبعض المبادئ الأخلاقية الشائعة في المجتمعات البشرية ليس لها علاقة تذكر أو لا علاقة لها بالصلاحية البيولوجية، وبعض التعاليم الأخلاقية تتعارض مع مصلحة اللياقة.
كيف تنشأ القواعد الأخلاقية؟ بكل بساطة وباختصار، الرموز الأخلاقية ناتجة عن التطور الثقافي النمطي للبشر يتجاوز النمط البيولوجي، فهو أكثر قدرة وفاعلية على التكيف، وأسرع منه، وأكثر قدرة على التوجيه. ويعتمد التطور الثقافي على الوراثة الثقافية اللاماركية، لا على الوراثة المندلية ولا على الميراث البيولوجي كخصائص مكتسبة من الآباء للأبناء، دون حدود بيولوجية. كما تمتد الطفرات الثقافية إلى الملايين في أقل من جيل واحد. فمن الطبيعي أو المنطق أن القبيلة التي يمتلك منتسبوها لروح الإخلاص والوطنية والتعاطف والشجاعة، كانوا دومًا مستعدين لتقديم المساعدة لبعضهم، والتضحية من أجل المصلحة العامة، وهذه المعايير الأخلاقية هي أحد عناصر نجاحهم. وهذا ما أكده داروين، كما يؤكد أن معايير الأخلاق للقبيلة تتحسن عبر التاريخ البشري على أساس اختيار المجموعة، أي كلما ارتفعت المعايير الأخلاقية القبلية زاد احتمال نجاحها. كما أنه من المؤكد انقراض أنظمة أخلاقية قديمة بسبب استبدالها من مجتمعاتها. فالأنظمة الحالية هي التي تم تفضيلها من قبل التطور الثقافي حيث تم نشرها داخل مجتمعات معينة لأسباب ما منها تصور الأفراد أن هذه الأنظمة ستفيدهم لتعزيز النجاح والاستقرار الاجتماعي.
إن الأخلاق هي قدرة متطورة للبشر، والقواعد الأخلاقية هي الميراث الثقافي الناتج. إنها ليست أبدية متأصلة في الكون، وليست عشوائية، وتمكننا من تغييرها حسب الرغبة. بدلاً من ذلك، فهي محاولتنا القابلة لإعادة النظر في رمز سيمكننا كمجتمع من عيش حياة سعيدة ومنتجة ومرضية.
المراجع:
https://www.psychologytoday.com/us/blog/finding-purpose/202011/where-does-morality-come https://philosophybreak.com/articles/where-do-morals-come-from/ https://www.ncbi.nlm.nih.gov/books/NBK210003/