من الصعب تحديد اسم كاتب واحد فقط، وذلك لكثرة الأعمال الأدبية الجيدة، إلا أن أحد الكتاب المفضلين بالنسبة لي هو الكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي، وأنصح بشدة قراءة رواياته الخمسة العظيمة الرئيسية، لأنه أفضل من كتب عن العمق النفسي للإنسان، ومن الصعوبة أن تجد من يوازيه في الكتابة في الأعمال السيكولوجية والنفسية، كما أن كتاباته، رغم أنه كان مؤلفا مسرحيا، إلا أنها أثرت على العديد من العظماء، منهم الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، فكأنما ديستوفيسكي كتب النص الدرامي المسرحي، بينما نيتشه قدم التعليق الفلسفي.
أعظم أعماله هي "المقامر" و "الإخوة كارامازوف" و"الأبله" و"الفقراء" و"الجريمة والعقاب" وعادة ما يكون أبطال رواياته يائسين وعلى حافة الهاوية ويعانون سوء الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في روسيا، كما أن صفات أبيه المستبد والمتعجرف، أثرت في كتابات دوستويفسكي بشكل واضح وكبير.
لذا، إذا كنت مهتما فعلا بالتعرف أكثر على علم النفس، فلا بد لك من الاطلاع على كتابات دوستويفسكي، وقد تكون قد سمعت بكاتب روسي آخر هو ليو تولستوي، صاحب الرواية المشهورة"الحرب والسلم" إلا أن الأخير قد اهتم أكثر بعلم الاجتماع، وكل من الكاتبين أبدع في مجاله.
تميز أسلوب ديستوفسكي في التنقيب في أسئلة الإنسان البدائية ويفحصها، وأضمن لك أنك بعد أن تقرأ كتبه، ستتغير نظرتك للحياة وللواقع للأبد.
أحد أبطال روايته الشهيرة "الجريمة والعقاب" هو الشاب راسكولينكوف، وهو شخص مادي وعقلاني وواقعي إلى حد ما، عاش في ثمانينيات القرن التاسع عشر، وكان يحمل أفكارا مختلفة عن المجتمع المحيط وعن أبناء جيله، وطان مهووسا بفكرة معينة، وهي أن الله قد مات، وأن السبب وراء تصرف الناس بشكل تقليدي وأخلاقي هم جبنهم، وأن الناس لم يستطيعوا أن يخرجوا عن الحدود التي كانت موضوعة لهم مسبقا بسبب أنهم اعتادوا عليها، وأن الإنسان يجب أن لا يتجاوز القواعد.
كان الشاب راسكولينكوف يعاني بسبب أفكاره، فهو شاب فقير، لا يملك قوت يومه، ويفتقر للمال، ارتاد كلية الحقوق، وكلها أمور تجعله لا يستطيع التفكير بوضوح. ومما زاد الطين بلة أن لديه ما يكفيه من المشاكل العائلية، أمه مريضة، وأخته تحاول الارتباط والزواج من رجل ذو سلطة، لا تحبه أصلا، وذلك بسبب الفقر، فهي تأمل بالحصول على بعض المال من خطيبها لتعطيه لعائلتها الفقيرة، وذلك لتتمكن الأم من الحصول على العلاج والأخ على استكمال دراسته في كلية الحقوق.
تقوم الأخت بإرسال الرسائل إلى أخيها راسكولنيكوف، تخبره فيها كاذبة أنها تحب هذا الرجل الذي قدم لخطبتها وأنه يعجبها، لكن راسكولنيكوف ذكي إلى حد ما، ومؤمن بأن كلامها غير صحيح، وأن أخته تود بيع نفسها وجسدها لرجل لا تحبه بسبب نواياها الإيثارية وحبها لأمها وأخيها، وهذا بالنسبة له حقيقة غير ممتعة على الإطلاق.
في خضم تلك الأحداث، يتعرف راسكولنيكوف على سيدة عجوز متقدمة في السن تعمل مرابية، حيث ترك عندها آخر مقتنياته رهنا في سبيل استدانة القليل من المال منها، وهي عجوز سيئة حقا واستغلالية، وهذا لم يكن رأيه وحده، بل كان هذا رأي جميع من استدان منها مقابل رهن أشيائهم.
كرهها جميعهم بسبب جشعها وقسوتها ومزاجيتها وسوء تعاملها وقلة أمانتها، وكانت تقطن معها قريبتها الشابة، والتي لم تتمتع بقدر كاف من الذكاء، وكانت تضرب دائما من قبل العجوز التي كانت تعاملها كالعبيد.
في تلك الفوضى العارمة، يجد راسكولنيكوف نفسه جائعا، فقيرا لا يملك النقود ويعيش حالة من الهذيان، إضافة إلى أنه محصور في أفكار إلهية عدمية غريبة، لذلك يقرر أن أفضل طريقة للخروج من تلك الحالة، تكون بالتخلص من العجوز المرابية وقتلها. ومن أخذ المال الذي تحتفظ به في خزانتها، فهو على أي حال لن يستفيد منه أحد وقد يتعفن في صندوقها. أيضا من ضمن خطته كان حصول قريبة العجوز على حريتها، وهي بنظره أفكار جيدة.
أي أن يتخلص من البشر السيئين في العالم، وإنقاذ أخته من زواج لا ترغبه، يراها أمور جيدة، ستمكنه من إكمال دراسته الحقوق والقيام بشيء جيد حسن تجاه العالم.
إن أحد الأمور المميزة التي كان يجيدها الكاتب دوستويفسكي، هو أنه عندما كان يشرح حديثا بين شخصين، أو بين شخص ونفسه، فإنه يصف تماما كيف أن الإنسان بطبعه عندما يتذكر الآخر في رأسه، فإنه عادة ما يحقره ويضحك عليه ويذمه ومن ثم يشعر بالفوز أو النصر عليه، وهي طريقة تفكير مؤسفة للغاية، إلا أنها حقيقية ويمارسها أغلب البشر أغلب الأحيان.
في روايات الكاتب دوستويفسكي، غالبا ما تتعارض شخصيات رواياته مع معتقداته الشخصية، وهم غالبا ما يخرجون للناس على أنهم الأذكى والأقوى والأجدر بالاحترام، لذلك يتطلب الأمر من الكاتب الكثير الشجاعة ومن الثقة الأخلاقية، فعلى سبيل المثال، ابتكر ديستوفيسكي شخصية تمتلك سببا وجيها ومنطقيا للقتل، عن طريق شخصية الشاب راسكولنيكوف، فأسبابه كانت فلسفية وعملية وأخلاقية ومادية، ولذلك، ذهب راسكولنيكوف وقتل المرأة المرابية العجوز بواسطة الفأس، إلا أن الأمور لا تسير كما خطط لها.
بعد أن قتلها، يكتشف راسكولنيكوف أن شخصيته قبل القتل تختلف جدا عن شخصيته بعد القتل، مما يجعل الأمر مربكا بالنسبة له، وكأنه دخل إلى عالم مختلف تماما عن الذي اعتاد عليه، وهذا العالم الجديد عليه كما يصفه فيودور دوستويفسكي، إنما هو عالم مليء بالرعب والفوضى والخوف والشك والمعاناة وانعدام الأمان والثقة والضياع.
راسكولنيكوف بعد قتله للعجوز وحصوله على المال من خزانتها، لا يستخدمه ولا يستفيد منه، بل يفضل دفنه على وجه السرعة، لذا يختار صخرة كبيرة في الزقاق ليدفن الأشياء تحتها ويعود إلى غرفته الصغيرة الكريهة، وكأنه كره هذا المال ولا يريد رؤيته مرة أخرى.
كل ما قام به دوستويفسكي هو أنه خلق سببا للاهتمام بقراءة الكتب، فهذا الكتاب أحد أروع الكتب على مر التاريخ، وبعد أن تنتهي من قراءة كتابه ستفكر وتسأل إن ما كانت الشخصيات حقيقية أم لا، وهل محتوى القصة حدث بالفعل أم لم يحدث. إلا أن الإجابة من منظور واقعي، هي أن الشخصيات والأحداث كلها من وحي خيال الكاتب، ومع ذلك، إن عدت للتفكير بالشاب راسكولنيكوف، وإذا نظرت إليه كرمز لشخصية معينة عاشت في ذلك الزمن، حيث بدأت بذرة الثورة الروسية وأزمات الديمقراطية الليبرالية فتجد أنها عبارة عن خلاصة للأيديولوجية في ذلك الوقت، وبالتالي فإن شخصية راسكولينكوف واقعية ومتعالية جدا.
39 مشاهدة
