ماهو الفرق بين المنهج والنقد وبين التأويل عند ناقد الإبداع وناقد النقد؟

1 إجابات
profile/أريج-عالية-1
أريج عالية
educational consultant في freelance (٢٠١٨-حالياً)
.
٢٦ مارس ٢٠٢١
قبل ٤ سنوات
تعجبني الأسئلة المركبة، والتي تقتحم عقل المجيب وتجعله يفكر ويبحث خارج صندوقه. في مراحل التغيرات والتحولات الحضارية السريعة في المجتمعات، تظهر بيئات متباينة ذات نمطية متقابلة ما بين الثقافة والفكر. أحد هذه الأنماط يتشبت بعتبات الماضي ليثبت قدرته على مجاراة الحاضر، أما النمط الآخر فيندفع بلا هوادة نحو ما استجد بقوة دون توقف. أما في الوسط، فنرى تذبذب ما بين هذا وذاك، مما يصعّب عملية الاختيار ما بين هذين النمطين المتقابلين. هذا التحول انطبق بالطبع على النقد الأدبي لتنشأ العديد من النظريات المنطلقة ما بين الفلسفات اللغوية والأدبية وطبيعة التلقي والإبداع، لتخالف السائد من النقد الشامل لتجربة النص وصياغته ومستواه.

عند التأمل في هذه النظريات الجديدة، سنجدها أقرب مقامًا إلى المنهج العلمي وأكثر مسايرة لطبيعة العصر. لكنها تتشبت بمنهجيتها الغربية مبتعدةً عن واقع الأدب والنقد العربي، فاصطدمت بمنهجباته وأساليبه بسبب نقلها من النقّاد المهاجرين على عُجالة وبإسراف إعجابٍ لطبيعة النقد الغربي، مما جعلها أقل قدرة على مواجهة النظريات النقدية السابقة، فكانت أكثر ملاءمة مع بعض النصوص الخاصة ولم تستطع مجاراة النصوص العامة، مما استدعى الحاجة للمناقشة أو الإضافة أو الحذف أو التعديل عليها لتتلاءم مع النصوص العربية. كما دعت الحاجة لتلمذة نقّاد جدد على أيدي النقّاد الناقلين لهذه النظريات، وشرحها وتفسيرها لهم. فلم تعد الخلافات قائمة على القضايا الفكرية النقدية، أو المفارقات في الظواهر الأدبية أو بعض النصوص الإبداعية فقط، بل امتدت للمعرفة بأصول نظريات الحداثة وما ناقشه مفكروها وسلامة نقلها وترجمتها وصحة نسبتها لهم، حتى تجاوزت مجال الأدب والنقد لمجالات لا صلة لها بها، ليتم فقدها بالابتذال الدلالي، ليصبح النقد والأدب استهلاكيًا لا منهجيًّا. كما  امتد الأمر ليصل للأبحاث والدراسات الجامعية على مستوى الماجستير والدكتوراه. ففُرضت الرسائل البحثية ذات الطابع النمطي، وذات الإشكاليات التكوينية من قبل الأساتذة الجامعيين، وامتدت الخلافات الجدلية حتى وصلت لمستوى العنوان، وبدأت التساؤلات السطحية بالظهور، منها على سبيل المثال: هل نكتب كلمات مفتاحية للعنوان على غرار كلمة فاعلية البحث أو مدى البحث أو أثر البحث أو تأثير البحث. مع التكرار والنقل وإعادة الصياغة والتشابه الفكري في القضايا البحثية أو بالأحرى نسخها، مما جعلها تبدو أقل بساطة، وأكثر عبثية وسطحية عما هو في واقعها الحقيقي.

لقد كانت الغاية من النقد مبشرة في مراحله التطويرية، وذلك قبل حصره في الدائرة الضيقة السابقة. وقيام النقّاد بشخصيتهم المركّبة من العديد من المكونات المحلية والإقليمية والعالمية، بالتعامل باستعلاء مع من يعارضهم، بحيث تتحول الجدلية إلى صياغات حاسمة تغلق أي باب نقاشي. كانت الغاية من النقد تنظيم النصوص، وتقديم بعض النصوص الإبداعية للمتلقي بشكل منهجي تكاملي الجوانب، بحيث يجمع ما بين حس الناقد المثقف الممارس للنقد، والأصول للنظرية النقدية فيصبح النقد ذو ذوق خاص، أو نقد يرى النصوص بالرغم من اختلافاتها بمجهر موحد. ظهرت التحديثات التي أضفت نظريات عصرية جديدة تقوم على الفلسفات اللغوية والنفسية والاجتماعية، وبالرغم من كل ذلك، ونظرًأ لتداول النقد على نحو نمطي تكراري من قبل الوجوه الشابة، والتي فُرض عليها وجوه معينة من الإبداع الحضاري والحس الأسلوبي واللغوي من نصوص الأدب الغربي والتي تم تفخيمها وإعلائها على النصوص العربية، ليصبح النقد في موقف مختلف تجاه الإبداع، فلا يسبقه من خلال استخدام النظرية، ولا يتبعه باستخدام التطبيق، فيتم النظر للإبداع بشكل موضوعي متأنٍ مترافق مع النقد كنظير وليس تابع له. لكن ظهرت طائفة من الشباب الناقد، والتي تعتقد أنّ الإبداع يتبع النقد بتواضع واضح، بحيث خضع الإبداع للخطاب النقدي الذي يهيمن عليه، وخضع أيضًا للمصطلحات المتفردة التي أنشأت أشكال أدبية جديدة ذاع صيتها بسرعة بينهم، أي ظهر التداخل والتشارك في خصائص تلك الأنواع دون الاقتصار على نوع بعينه. حيث يمكن مزج الحوار والشعر والقصة في الحكايا الشعبية والسيرة مثلًا، لينتزع الشعر كإبداع صدارة الموقف ويصبح مُغنى او منشود بتلقائية، فلا يستجيب للمصطلحات النقدية المعروفة، لتظهر بلورة للأنماط الأدبية الجديدة من النثر الفني.

من وجهة نظري المتواضعة، أصبحت فعاليتا النقد والإبداع متلازمتين، فكل منهما يستدعي الآخر ويلازمه، ضمن جدلية نشطة، واستمرارية دائمة، بحيث يتم التمرد على القواعد والتفرد بالتصورات الجمالية لتأسيس نقد جديد، يلغي ما هو قديم و ينشئ منظومة نقدية حديثة تمكن الناقد من إنتاج خَلقٍ فنيٍّ أدبي مبدع، دون تعسف أو إجبار. في الإبداع يتم صناعة الذات النقدية، واستقصاء العلاقة بين الإبداع والنقد. وهو في حد ذاته- برأي علماء النقد- يحمل النقد معه، لكنه يقوده ضمن تنقيحات يُعتقد بأنها تمثل الإبداع الحقيقي وأهم مراحله. والتي ضمّنها ت.س إليوت تحت مُسمى المَلكات النقدية، والتي تتمثل بسعة الاطلاع، والحساسية الجمالية، وحس التاريخ، وقدرة التعميم، والمقارنة والتحليل، وحس الحقيقة، حيث يعتقد  إليوت بعدم قدرة الشخص الواحد على جمعها ودمجها معًا في ذاته النقدية. 

وجود هذه الجدليات جعلت للنقد مهمة ثلاثية الأبعاد. فمُبدع النص هو ناقد ذاتي لاختياراته ونقده ومراجعاته، متسلحًا بقوالب التعبير الفني دون تقييد، منوعًا مصادره الخبرية لقوالبه متخلصًا من الخصائص واللوازم الخاصة به. والعمل الفني هو البعد الثاني الذي يمتلك المعاني الشكلية والخصائص الجمالية التي تحتاج من يدركها ويستخرجها. أما البعد الثالث فهو المتلقي سواء كان مستمعًا أو قارئًا، ويشترط فيه وجود طاقة للتأويل تصل لحدود إبعاد ما هو شاذ وغير منطقي، ويمتلك طاقة حركية تمثيلية تقارب وتتجاوز أفعال النص: وهي الأفعال الإبداعية، والتشويقية، والتأثيرية الأخلاقية، والتأثيرية اللغوية، والتأثيرية البيئية، والتأثيرية الأسلوبية، وغيرها من أفعال. كما أرى بضرورة رفع الحواجز ما بين النقد والإبداع، فالناقد إبداعي، والعمل النقدي كذلك قبل أن يكون نزالًا أو نزاعًا أو مساجلةً أو تحليلًا. فالإبداع لا يتناقض مع أي نص أدبي أو يبغي وجوده. فلا يتطفل النقد على الأدب، بل هو من الأعمال الإبداعية كما الأدب، فيدخل في صلب الإبداع بالابتكار، والابتعاد عن التجميع المعرفي أو التنظير أو التجريد. فهو نقد للقيمة  يتعمق في أثر النقد وحيثياته.

من فروع الدراسات النقدية نقد النقد أو ما يسمى ميتا النقد أو ما بعد النقد، يمكن النظر من خلاله لفاعلية النقد ما بعد الحداثة، بحيث يكون القارئ الناقد المبدع في الصدارة. يعد نقد النقد أداء إجرائي ضمن ممارسة كتابية يسبقها صنعة قرائية، يستند الناقد فيها إلى الخبرة في منهجيات النقد الأدبي، ليتجاوزها من خلال استيعاب منهجيات القارئ، ويصقلها من خلال مدارس القراءة التي تتمركز حوله. فناقد النقد يعيد إنتاج الخطاب النقدي الأول المبني على عمل أدبي سابق لإنتاج خطاب نقدي ثانٍ متمم للخطاب الأول من خلال التحاور، ليُعاد إنتاجه مرة أخرى نقديًّا، وهذا ما أصفه أنا بالإبداع النقدي. يدرك ناقد النقد الفرق بين هذا النوع من النقد، ونقد النقد المستقل ذاتيًّا والنقد الأدبي. حيث يتمكن الناقد من الثقة بقدرة الناقد الأدبي على الغوص في جماليات النصوص الأدبية المختلفة وتأويلها والكشف عن بواطنها. تصبح عملية إنتاج النقد متداولة ومقروءة من خلال إغنائها بالنقد الأدبي، بحيث يمكن إعادة تعداد وتداول ومراجعة وتفكيك وعرض وتأويل وشرح وتوالد القراءات باستمرار إلى ما لا نهاية.

المنهج في الدراسات الأدبية يوضح طريقة الناقد أو/ و القارئ في قراءة النص المرغوب والكشف عن بواطنه وجمالياته ودلالاته من خلال التصور النظري و/ أو التحليل النصي، بحيث يحدد الناقد مجموعة القيم النظرية ليقولبها كفرضيات، ثم يحللها ويختبرها نصيًّا للتوصل لخلاصات تركيبية واضحة. من هذه المناهج: المنهج التاريخي، والمنهج الاجتماعي، والمنهج النفسي، والمنهج الجمالي، والمنهج الاجتماعي، والمنهج البنيوي، والمنهج السيميائي، والمنهج التفكيكي، والنقد الثقافي، والنقد النسوي، وغيرها من مناهج . أما التأويل أو الهيرمينوطقيا فيستخدم للتمحيص في وجوه التحصيل لفهم تلك النصوص أو كيفية فهمها ثم تفسيرها، من خلال العناية بالظواهر الخطابية واللاخطابية الإنسانية، لتصبح نصوصًا قابلةً للقراءة والتحليل والاستنطاق مع استخدام المنهج المناسب- وأفضلها المنهج التكاملي- لها أو كما يسمى الفهم، وبين المنهج المناسب للظواهر الطبيعية من حوله وهو ما يسمى التفسير. أي يمكننا استنتاج العلاقة التضامنية التكاملية ما بين كل من النقد والإبداع في النصوص الأدبيةـ، والتي ينظر لها كمنهج وتأويل.

ناقد النقد يرتهن بإشكالية ذات احتمالين، الأول منهما يتمثل بالتعاطي مع النصوص دون ضابط منهجي أو أساس نظري، وهذا الشائع في النقد المعاصر. أما الاحتمال الثاني يتلخص في ضرورة الانطلاق في هذه الممارسة من خلال استخدام النظريات القرائية والكتابية و الاعتماد على القارئ، وهو الاحتمال الأقل استخدامًا عند ناقد النقد العربي لكنه الأفضل على الإطلاق. يتوضح هدف تحليل الخطابات النقدية على اختلاف توجهاتها للبحث عن تأويلات أو نواحٍ خفية مبطنة، مع معرفة أنماط ومستويات القراءة ووظائفياتها، بما يضمن فاعلية وسيرورة اتجاهية قرائية متعددة ومتغايرة باختلاف منهجيات القراءة، وكيفية توظيفها في التأويل. هنا تصبح الممارسة نقد النقدية ذات إنتاج إبداعي سيروري قرائي تستمد إجرائيتها من الناقد الأدبي، أو ناقد النقد.

مهمة ناقد النقد المبدع مازالت تحت التجريب، فلم يتم توكيدها بالنظريات، ولم يتم تفريغها من المنهجيات والإشكاليات المتوزعة بين النقد الممنهج استنطاقيًا بالتفكيك والتقويض، وبين النقد غير الممنهج القائم على الإنتاج الاستجوابي على هيئة فعل ورد فعل، ضمن آليات مختلفة غير مركزية، تسعى أحيانًا للعقلانية التأريخية أو التقاضي، ولربما تتشوش بسبب تنقيتها وتمحيصها. ولربما تكون هذه المهمة ذات هوية معينة دون أن تنتمي لمنظومة معرفية محددة واضحة. لذا أصبح نقد النقد إبداعًا بحد ذاته يمارسه الناقد المحاور والمشارك على المستويات الكتابية الشتى، مما يجعله حقلًا مستقلًا مكملًا للنقد الأدبي.