كقارئ، وكشخص ينفق مبالغ كبيرة على الكتب، أتعرض لهذا السؤال كثيرًا، وكثيرًا ما تكون نظرته ساخرة وقاسية. حيث أن الناس لا يستطيعون أن يفهموا الهدف من القراءة بعد قراءتهم لمجموعة كتب، وبعد فترة قصيرة يعون أنهم لا يتذكرون شيئًا مما قرأوا، أو ربما يكون فقط شيئًا يسيرًا لا يُشعرهم بالفائدة والأهمية.
أتذكر سابقًا أنني قرأت قصة حول هذا الأمر، لكن ذاكرتي لا تسعفني في تذكر القائل أو حتى من أين سمعتها، أو لربما -كما قلت- قرأتها. ولأهميتها ولقدر ما جعلتني اقتنع بمغزاها؛ لم أستطع لليوم نسيانها، وما زلت أقصها على كل شخصٍ يسألني هذا السؤال مرارًا وتكرارًا، وأكاد أجزم أن كل من يسمعها تتغير نظرته ويبدأ برؤية أمر القراءة من منظور آخر. فإليك هذه القصة…
كان هناك طفلٌ يسكن مع جده، كبر وترعرع على صورة جده الذي دائمًا يرتدي نظارته ويقرأ كتابًا ما. ودائمًا ما يسمع من جده النصائح حول أن عليه أن يقرأ ويتثقف ويتعلم. وأن الكتاب بمثابة مدرسة. وأنه بأهمية الهواء الذي نتنفسه. لم يرفض الطفل هذه النصائح بتاتًا، وكان يحاول جاهدًا تقليد جده. إلا أنه وبعد مرّات من المحاولة؛ قال لجده مستفسرًا؛ لما يا جدي نقرأ هكذا ونحن لا نتذكر ما نقرأ في لحظة انتهائنا من الكتاب؟ حتى أن الوقت الذي نقضيه بالقراءة يبدو وكأنه يذهب سدًا بلا فائدة واضحة تُذكر. فكيف لي أن أستطيع أن أتذكر كل ما أقرأ؟ وكيف يستطيع المرئ استيعاب كل هذا الزخم في رأسه.
لم ينطق الجد بإجابة تشفي فضول حفيده، بل أعطاه سلة الفحم الفارغة إلى جانبه وطلب منه ملئها بالماء من النهر. حمل الفتى السلة وخرج ليقوم بمهمته، وما ان عاد راكضًا حتى كانت السلة فارغة من الماء، ولكيف يملأ سلة بالماء! إلا أن جده كان مُصّرًا على أن يعود ويملأها ثانيًة. وكانت النتيجة بلا شك كسابقتها. أم الجد؛ فلم ييأس، وضلّ يطلب ذات الطلب من حفيده، "أن أذهب واملأ السلة بالماء".
وبعد مرّات عديدة من المحاولات، وبعد أن شعر الفتى بتعبٍ لم يمكّنه من تكرار المحاولة؛ أوقفه الجد وطلب منه أن ينظر إلى سلة الفحم بين يديه. وفعلًا، كانت سلة الفحم المهترئة والتي لطالما كانت مجرد سلة فحمٍ قديمة ولا يعيرها أحدٌ أي اهتمام، هي الآن سلة نظيفة، حتى أنها لتبدو سلًة جديدًة بشكلٍ ما.
ليست القراءة خطًة للحفظ، وليست وسيلة سريعة لملئ العقل بما يرغب، بل هي خطة ذات هدف على المدى البعيد، تظهر نتائجة بالمحاولة الصادقة لاكتساب العلم وليس فقط لإثبات الثقافة التي نملكها للغير أو ما شابه. ولعل أنيس منصور يستطيع أن يؤكد لك المغزى في القصة السابقة إن لم تفهمها حيث قال: "ﻻ ﺷﻲﺀ ﻳﻀﻴﻊ، ﻛﻞ ﻣﺎ ﺗﻘﺮﺅﻩ ﻳﻔﻴﺪﻙ، ﻭﻛﻞ ﻣﺎ ﺗﻘﺮﺅﻩ ﻓﻲ ﺃﻋﻤﺎﻗﻚ ﺃﻧﺖ ﻻ ﺗﻌﺮﻑ ﺃﻳﻦ ﻳﺒﻘﻰ، ﻭﻻ ﻛﻴﻒ ﻭﻻ ﻣﺘﻰ ﻳﻈﻬﺮ ﺑﻌﺪ ﺫﻟﻚ، ﻭﻟﻜﻨﻪ ﺳﻮﻑ ﻳﻨﻔﻌﻞ ﻭﺳﻮﻑ ﻳﻈﻬﺮ، ﺇﻧﻨﻲ ﻛﺜﻴﺮﺍً ﻣﺎ ﺃﺗﺬﻛﺮ ﺣﻮﺍﺩﺙ ﻭﻗﺼﺼﺎً ﻗﺮﺃﺗﻬﺎ ﻣﻦ ﺃﺭﺑﻌﻴﻦ ﻋﺎﻣﺎً، ﺃﻳﻦ ﻛﺎﻧﺖ ؟ ﺇﻧﻬﺎ ﻫﻨﺎﻙ، ﻟﻤﺎﺫﺍ ﺟﺎﺀﺕ ؟ ﻷﻧﻬﺎ ﻭﺟﺪﺕ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﺍﻟﻤﻨﺎﺳﺐ ﻟﻜﻲ ﺗﻜﻮﻥ ﻣﻔﻴﺪﺓ، إﻗﺮﺃ، إﻗﺮﺃ ﻣﺎ ﺗﺸﺘﺮﻳﻪ ﻭﻣﺎ ﻳﺸﺘﺮﻳﻪ ﻏﻴﺮﻙ ﺇﺫﺍ أﺳﺘﻄﻌﺖ، ﻭﻟﻜﻦ ﻻ ﺑﺪ ﺃﻥ ﺗﻘﺮﺃ"
فما رأيك الآن؟