تَعُجُّ السينما بالأشرار، وربما هُم أهمّ عناصر جاذبيتها أو لنقل "نقاط بيعها؛ فعلى الرغم من تحمّس معظمنا للخير ورغبتنا الصادقة في انتصاره الدائم في النهاية وتوتّرنا وغضبنا من أفعال أصحابه ووضع أيادينا على قلوبنا ونحنُ نشاهد الأشرار في فيلمٍ أو مسلسلٍ ما يُحقّقون الانتصار تلو الانتصار، إلّا أنّنا نُعجَبُ بمن يقفون على ضفّة الشر، ونقتبس أقوالهم ونضع صورهم وننشر مقاطع نُحبّها لهم ونقلّد ملابسهم وطريقة كلامهم! وتفسير ذلك على الأغلب، أنّ الخير "مُمّل"، ويفتقد الكاريزما التي أنعم بها صُنّاع السينما والتلفزيون -والأدب وحتى الأساطير- على الأشرار.. ونحنُ البشر نفرُّ من الملل فرارنا من المجذوم وننجذب إلى ما يُثيرنا ويسحرنا حتى لو كان على النقيض ممّا نؤمن به.
وعند الحديث عن الأشرار في السينما والتلفزيون، غالبًا قد يخطر على بالك عدو باتمان اللدود "الجوكر" أو دارث ڤيدر من سلسلة أفلام حرب النجوم أو الدكتور آكِل لحوم البشر هانبيال لِكتر أو نورمان بيتس من فيلم Psycho لألفريد هِتشكوك أو رامزي بولتون من مسلسل "صراع العروش" والقائمة تتوسّع وتطول. أو ربما كنت مُحبًا للأعمال العربية، فاستذكرت محمود المليجي أو توفيق الدقن أو عادل أدهم أو غسان مطر.. أو سلّوم حداد الذي برع بتأدية أدوار الشرّ المطلق في مسلسلات حقبة التسعينيات.. خاصةً تلك الفانتازية التي كان يخرجها نجدت إسماعيل أنزور.
سأتحدّث سريعًا عن أكثر شخصيتين شريرتين أثارتا إعجابي في السينما والتلفزيون: ماكس كادي من فيلم "Cape Fear" والذي أخرجه مارتن سكورسيزي عام 1991، ولورِن مالڤو من الموسم الأوّل من مسلسل Fargo الصادر عام 2014.
يؤدّي روبرت دي نيرو شخصية ماكس كادي، والتي سبق وأدّاها الممثل الأميركي الراحل غريغوري بِك في الفيلم الأصلي الذي أنتج عام 1962. ومنذ اللحظة الأولى لظهوره يأسرنا كادي، حتى قبل أن نشاهد وجهه، فنراه فقط من الخلف وهو يمارس تمارينه الرياضية في زنزانته، وسط صورٍٍ تُعطينا فكرةً عن هوسه بالقوة وميله نحو العنف، ونلمحُ كذلك مجموعة كتب منها "إرادة القوة" للفيلسوف الألماني "فريدريك نيتشه".
يخرج كادي من السجن، بعد قضائه 14 عامًا، ليبدأ عندها كابوسٌ مرعبٌ وطويلٌ جدًا، لكنّه ليس كابوسه، بل كابوس محاميه الذي كان سببًا في قضائه هذه الفترة الطويلة بدلًا من تبرئته من جريمته أو تخفيف عقوبته.
يُمارس ماكس كادي الشرّ بأناقة، فيُدخّن سيجارًا كوبيًا فاخرًا، مرتديًا قمصانًا زاهية الألوان. وتتضاعف هذه الأناقة مع وسامة دي نيرو الذي كان يبلغ من العمر حينها 48 عاماً. ويبدو شريرًا مثقّفًا وحكيمًا وهو يقتبس من المؤلّفات التي قرأها خلال سجنه الطويل، ويُلقيها على نحوٍ مسرحي وهو يُمارس صنوفًا مختلفة من العنف والسادية ضد ضحاياه.
يُقال: إنّ أفضل ما في الكوابيس أنّها ليست حقيقة، لكنّ كوابيس ضحايا كادي كانت حقيقةً لا شكّ فيها، وبعكس الكوابيس لا يمكن الهرب منها بالاستيقاظ فهي واقعٌ جحيمي لا مخرج منه إلّا الموت، خاصةً حينَ تواجه شيطانًا بسبعة أرواح يُطارد الضحايا في كل مكان ويقتحم بيوتهم ويقترف شرورًا وفظائع لا تحتملها لا القلوب الهشّة والضعيفة فحسب.. بل حتّى أكثر القلوب قسوةً وصلابة! إنّه الشيطان الذي يظهر للبعض في الكوابيس، وفي Cape Fear يخرج هذا الشيطان من الواقع ليظهر لعائلةٍ سيئة الحظّ ليُرعبها ويحوّل حياتها إلى ما يشبح غرفة الأشباح في مُدن الملاهي!
أما في عالم Fargo، فثمّة أشرارٌ كُثُر، لكنّي ليست معنيًا بالحديث عنهم هُنا، يُهمّني واحدٌ فقط منهم.. لورِن مالفو، الشرير الأكبر في الموسم الأوّل من المسلسل، الشيطان الأعظم الذي يلهو بشياطين صغار، أو ربما لم يرتقوا لمستوى الشياطين.. ليسوا أكثر من بشرٍ يتلاعب بهم الشيطان "مالفو" كالدُمى، ويوسوِس في صدورهم ويُزيّن لهم أعمالهم.
وربما النقطة السابقة -إلى جانب الكاريزما الساحرة للممثّل الأميركي بيلي بوب ثورنتون- هي السبب الرئيسي لجعل لورين مالفو، أحد أكثر الأشرار تفضيلًا بالنسبة لي؛ حقيقة أنّه شيطانٌ فائق القوّة والذكاء، يتلاعب بأشرارٍ في أحسن حالاتهم هم متوسطو الذكاء والقدرات، فيُحوّل إنسانًا فاشلًا ومنبوذًا وضعيفًا إلى إنسانٍ ناجحٍ بفضل وساوسه وألاعيبه.. أو ببساطة: بفضل "القتل"!
إضافةً إلى هذا السبب، هُناك ما أحبّه أكثر من أي شيءٍ آخر في أشرار السينما والتلفزيون.. انعدام القصّة الخلفيّة أو قصّة الأصل backstory؛ حيث لا نعرف شيئًا عن ماضي مالفو وعن حياته السابقة؛ هل كان مجرمًا منذ البداية؟ كيف وصل إلى هذا الذكاء في ممارسة القتل؟ وكيف بلغ ذورة هذه البرودة في حصد أرواح البشر؟ ربما كان مُحسنًا ومن فاعلي الخير! ربما كان يملك عائلةً ووظيفةً محترمةً ومركزًا اجتماعيًا مرموقًا قبل أن تحدث مأساة أو خيانة من مقرّبين أو خديعة حوّلته إلى هذا القاتل الشيطاني! وهناك في الحلقات الأخيرة من الموسم ما يلمح إلى ذلك، إلى أنّه ربما كان يحظى بحياةٍ سعيدةٍ ومكانةٍ بين الناس قبل أن يغدو مدفعًا بشريًا يُطلق قذائف العنف والقتل على كل شيءٍ حي.