لست مغرمة كثيرًا بالروايات بشكل عام، حيث أفضل الكتب الثقافية السياسية والتاريخية. لكن رواية " البؤساء" Les Misérables من سلبت وجداني. صحيح أنها رواية فرنسية قديمة كتبت عام 1862 من قبل العظيم فكتور هوغو. كما أن مشاهدة الفيلم عام 2012، وقصة الرواية في سلسلة" من قصص الشعوب" جعلت هذه القصة جزء من تكوين ذاكرتي طويلة الأمد، إذ جعلت شخصياتها مفصلية، تتحرك أمامي كأرواح حقيقة. وها أنا أكتب عن هذه الأيقونة وأرى شخصياتها قابعةً أمامي تراقب ما أكتب.
كتبها فيكتور هوغو (1802-1885) الذي ألبس الأدب الفرنسي قبعة الجمال الحمراء، برقة تعابيره، وحسن انتقائه للكلمات. مثّل هوجو الرومانسية الفرنسية بتفرد، ومثلها بالنظرة المنفتحة على المستجدات الاجتماعية مثل نشوء البروليتاريا (الطبقة الكادحة) الجديدة في المدن وظهور قراء الطبقة الوسطى، وظهور الثورة الصناعية والحاجة إلى الإصلاحات الاجتماعية للتقليل من الفجوات الطبقية، مما دفعه للتحول من نائب نيابي ملكي فرنسي إلى متمرد من الدرجة الأولى. نشر له أكثر من 50 رواية أشهرها روايتنا، و"أحدب نوتردام" التي شكل إسقاطه وتمرده على الطبقية والعنصرية والتمرد، كما سلط الضوء على تبعيات الفقر والمطالبة بالحرية، هذه الرواية أيضًا من روائع القصص العالمية التي أنصحك بقراءتها.
تدور أحداث الرواية في مدينة ديني عام 1915، فقد أطلق سراح جان فالجان بعد سجن دام 19 سنة، نعم 19 سنة فقط لسرقته قطعًا من الخبز لإطعام شقيقته وأطفالها الجياع السبع. رفض الجميع استقباله بما فيهم الفنادق بسبب الجواز الأصفر الذي يسمُه كمجرم سابق. ليستضيفه رجل الدين في المدينة "شارل ميريل". وفي الليل يحاول الفرار بمجموعة من الشمعدانات الفضية، فتقبض عليه الشرطة وتطلق سراحه لاحقًا بسبب تأكيد رجل الدين أنه من أعطاه الشمعدانات. هذا الموقف جعل جان فالجان يفكر في الأمر مليًّا، خاصة بعد وهب رجل الدين الشمعدانات له بالفعل. في الطريق، تسوّل له نفسه بسرقة أحد الولاد ثم يندم على فعلته، إلا أن المر وصل للشرطة ليختبئ ستة أعوام، ويغير اسمه لـ "مادلين" الرجل الثري لمصنع في مدينة"مونتريالسرمير"، وفيما بعد أصبح عمدتها. لطن صدفةً جعلته يقدم مساعدة بجثته القوية لرجل حُشر تحت عجلات عربة، جعلت المحقق "جافيير" يشك به؛ إذ كان يعرف قوة جا نفالجان المحتجز السابق في السجن، والذي أشرف عليه.
وقبل الحادثة بأعوام تم طرد العاملة "فانتين" من مصنع"مادلين/جان فالجان" عند علمهم بحملها وولادتها للطفلة " كوزيت" دون زواج. تركت فانتين ابنتها عند عائلة تيناردييه سيئي الطباع، الذين استغلوها لخدمة الزبائن في نُزلهم، وكانت تدفع لهم للعناية بها. ومع تزايد مطالبهم المالية، وحاجتها للنقود، وبحثها المستمر عن عمل جديد فلا تجد لتبيع شعرها وأسنانها الأمامية، ثم العمل بمهن وضيعة لتمرض. ثم تتعرض في الشارع للمضايقة لترد بضرب المعتدي الذي يستعين بجافيير، ليحاول سجنها ستة أشهر، هنا يتدخل جان فالجان لشعوره بالمسؤولية تجاه طردها وينقذها، ثم يذهب لإحضار كوزيت لوالدتها المريضة.
تم توجيه التهمة مرة أخرى لجان فالجان بالخطأ، حيث التقط رجل فقير غصن يحوي بقايا فاكهة وأكله، فاتهم بالسرقة. هذا الرجل يشبه جان فالجان، لذا انتهز جافيير الفرصة ووجه التهمة لجان، مع تفتيش الدفاتر القديمة حول سرقة الطفل، ليقوم جافيير بالبحث بحماس عن جان بعد أن أكد أن كلا السرقتين كانتا من قِبله، وشهد بذلك في المحكمة. سلم جان نفسه للمحكمة حتى لا تلتصق تهمة سرقة الطفل بالرجل الفقير، واستطاع الفرار والاختفاء مرة أخرى خلال عملية نقله. ليقوم بإنقاذ كوزيت من سجانيها وتبناها مدى حياته بعد موت والدتها.
قصة البؤساء هي إطلالة على قساوة حياة المهمشين والضعاف الذين عاشوا في ظلال المدنية الزائفة، وحاولوا الإبقاء على حياتهم بأقل خسارة ممكنة، إلا أن الظروف كانت طاحنة ملحمية، دعتهم أحيانًا الالتفاف على القوانين الجائرة التي لا ترحمهم، حتى لو تابوا. هناك الكثير من العظمة والرومانسية والجمال في كل ورقة تصفحتها في الرواية، التي قرأتها بالعربية، والتي أظن أنها أكثر روعة بلغتها الفرنسية الأم. هذه الرواية وغيرها التي خطّها هوغو في تاريخ الأدب الفرنسي، جعلت منه رمزًا بارزًا تفخر به فرنسا، وتكرمّه بعد وفاته بجنازة حاشدة لم يشهد لها التاريخ الفرنسي مثيلا.