لم يخطر على بالي بكل صراحة في البداية سوى تلك المواقف الغريبة التي كانت تحدث معي خاصة في الامتحانات؛ كأن تأتي أغلب الأسئلة من الصفحة الأخيرة التي قمت بمراجعتها من الكتاب، أو قدرتي بطريقة ما على اجتياز امتحانات الثانوية العامة بِقدر قليل جدًا وغير منطقي من الدراسة. لربما يعود ذلك لطبيعتي التي تفضل مسح الذكريات الغريبة والسيئة وأخذ الدروس المستفادة منها، صدقني امتلك كم كبير من الدروس في الحياة التي لا أمتلك أي فكرة عن مصدرها.
بإمكاني وصف رحلتي التعليمية بكونها ممتعة ومسلية أكثر من كونها غريبة؛ إلا إذا اعتبرنا أن إحضارنا وتناولنا أنا وصديقاتي وجبات تؤكل عادةً في وقت الغداء لنأكلها في وقت الاستراحة -الذي كان لمعلومياتكم قبل الساعة 12 ظهرًا- أمرًا غريبًا.
كانت أفكاري تسري بشكل طبيعي جدًا حتى تذكرت تلك الفكرة المجنونة والغريبة التي قمنا بها في الصف الحادي عشر في نهايات السنة الدراسية، ولسبب ما جميع القصص الممتعة والغريبة التي امتلكها عن المدرسة تتعلق بالطعام. كانت المدرسة في هذه الفترة تمنع القيام بالإفطار الجماعي للصفوف بسبب تواجد اتفاقية بينها وبين المسؤولين عن المقصف المدرسي لكي لا تؤثر فعالياتنا الممتعة على الربح الذي يحصلون عليه.
ونحن كطالبات تبقى على ذهابنا للثانوية العامة بضعة شهور ستمر كالبرق لم تكن هذه الاتفاقية تروق لنا، فالتنوع في طعام المدرسة قليل جدًا وفي بعض الأحيان ينتهي قبل شرائنا له من الأصل. وكما نعلم نهاية الفصل تتواجد به الكثير من حصص الفراغ التي نمضيها باللعب والتحدث، لكن أحد هذه الحصص تحولت لمركز تكتيكي عسكري في أحد الأيام بسبب ترديد أحد الزميلاتي أنها ترغب بتناول جبنة القشقوان، وبمرور بعض دقائق أصبح الفصل كله يرغب بتناولها.
اقترحنا عليها في البداية إحضار شطيرة من جبنة القشقوان معها من المنزل، لتخبرنا أنها تحب تناولها ساخنة من بعد خروجها من حماصة الخبز (
Panini grill
)، وهنا بدأت الابتسامات الشريرة بالظهور. كان إحضار طعام مجهز من المنزل كافٍ لوقوعنا بمشكلة كبيرة مع المسؤولة الإدارية، فبإمكانك تخيل ردة فعلها عند قبضها علينا داخل غرفة الصف المغلقة نجلس بكل انسجام وسعادة تصنع مجموعة منا شطائر جبنة القشقوان، والبعض الآخر يقوم بتسخينها بالمحمصة، ومجموعة أخيرة في طرف آخر من الصف يصنعون الوافل باستخدام الآلة التي أحضرتها أحد زميلاتي من المنزل.
حتى يومنا هذا أود أن أعرف كيف استطاعت الطالبات اللواتي أحضرن الأجهزة بإقناع أهاليهم، لكن الأمر الأصعب كان بالتأكيد استخدامنا لقدرات التجسس عظيمة لإخفاء الأدوات لكي لا يتم الإمساك بنا من البداية. وكانت هذه الفعالية طبعًا مع سبق الإصرار والترصد؛ فقد جلسنا في يوم الاقتراح سويًا وبحثنا عن اليوم الذي تتواجد فيه حصة فراغ متبوعة باستراحة وحصة فراغ أخرى، لكي نكون قادرين على تناول الفطور والتحلية.
ما زلت للآن أتذكر ردة فعل المشرفة الإدارية عندما أمسكت بنا أثناء قيامنا بالجريمة؛ فالتجسس بإدخال الأدوات والخطط المحكمة التي نفذت بهدوء تم فضحه بالرائحة الشهية التي أصدرها المطبخ الصغير الذي كنا نديره. تحول وجه المسؤولة للون الأحمر فنحن لم نخالف الاتفاقية فقط وخالفنا أوامرها، فبالوقت التي امسكتنا به كنا تقريبًا في مرحلة الانتهاء من التحلية ونود الانتقال لشرب الشاي والقهوة، بمعنى آخر صرفنا كم هائل من الكهرباء الذي ستتكلف بدفعه المدرسة، وطبعًا قامت بمناداة مربية صفنا لتريها مطبخنا الفاخر التي قامت بصب غضبها الوابل علينا أيضًا.
المصيبة بالنسبة لي كانت أن مرحلة الشاي والقهوة تحتاج للمياه الساخنة، ولا تقلقوا قامت أحد صديقاتي القريبات بإحضار سخان المياه، لكن المشكلة تكمن بعدم وجود عدد كافي من المنافذ الكهربائية لنقوم بتوصيل السخان فيها، لذلك اضطرت صديقتي للذهاب للطابق السفلي لتعبئة الماء الساخن من جهاز الكولر المتواجد في أحد الطوابق.
كنا في وسط التعرض للتوبيخ لتدخل صديقتي بأكبر ابتسامة على وجهها أثناء احتضانها للسخان بطل حفل الشاي التي رغبنا إنهاء إفطارنا به، ليتغير وجهها بسرعة عند رؤيتها للمسؤولة ومربية الصف، وأنا كنت من الأصل أحارب ابتسامتي وصوت ضحكي أثناء تعرضنا للتوبيخ،ودخول صديقتي لم يزد الأمر إلا صعوبة وسوء، ولحسن الحظ كنت قادرة على كبت صوت ضحكي لحين خروج المعلمات.
مع أن التوبيخ كان يومها شديد جدًا وتم سحب الأجهزة من الطالبات لفترة من الزمن لا تزال هذه الذكرى من الذكريات المفضلة بالنسبة لي، وابتسامتي كانت تشق وجهي في أثناء كتابتي للقصة. ولعل هذا الموقف علمني أن لا أخذ الحياة بالجدية الشديدة التي تحرمني في بعض الأحيان عيشها، وأن لا مشكلة في كسر القوانين من فترة إلى أخرى بشرط أن تضع خطة محكمة، وأن لا تحتوي الخطة على الوافل لأن رائحته ستكشف خطتك!.