قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا* وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا).[الأحزاب : 28-29].
هذه الآيات نزلت في قصة تخيير النبي -صلى الله عليه وسلم- لنسائه بين الدنيا والآخرة.
ومناسبة نزول هذه الآيات الكريمة أنّ عائشة زوجة النبي طلبت من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يوسّع عليها وعلى نسائه في النفقة، فاعتزل النبي -صلى الله عليه وسلم- نساءه مدة شهرٍ كامل.
ثم أمره الله -تعالى- بأن يُخيّر نساءه بين الدنيا وزينتها ومتاعها، والتوسعة في النفقة، والطعام والشراب، واللباس والمتاع والزينة، ثم يقوم بعد تمتيعهنّ بكل هذا بمفارقتهن، وبين ما عند الله -تعالى- من الأجر والثواب والنعيم المقيم في الآخرة.
والتفصيل في القصة ما رواه الصحابي الجليل جابر بن عبدالله أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يخرج للصلاة يوماً، فقالوا: ما شأنه؟ فقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "إن شئتم لأعلمنّ لكم شأنه".
فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- ووقف على بابه وطلب الإذن، فأذن له، فقال: "فجعلت أقول في نفسي أيّ شيء أكلّم به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعله يُسرّ ويضحك"، فقلت: "لو رَأَيْتَ بنْتَ خَارِجَةَ، سَأَلَتْنِي النَّفَقَةَ، فَقُمْتُ إلَيْهَا، فَوَجَأْتُ عُنُقَهَا"، فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: (هُنَّ حَوْلِي كما تَرَى، يَسْأَلْنَنِي النَّفَقَةَ). رواه مسلم في صحيحه.
فذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى ابنته حفصة وقال لها : "لا تسألي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئاً ما كانت لك من حاجة فإلي"، -يعني تعالى وأنا أقضيها لك-.
ثم تتبع نساء النبي -صلى الله عليه وسلم-، فجعل يكلمهن بهذا الأمر ، فقال لعائشة رضي الله عنها: "أيغرك أنك امرأة حسناء، وأن زوجك يحبك؟ لتنتهينّ، أو لينزلنّ فيك القرآن"، قال: فقالت أمّ سلمة: "عجبا لك يا ابن الخطاب دخلت في كل شيء حتى تبتغي أن تدخل بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه؟" فنزل القرآن بالآيات أعلاه.
فبدأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعائشة - رضي الله عنها فخيرها، وقرأ عليها القرآن، فقالت: هل بدأت بأحد من نسائك قبلي؟
قال: لا قالت: فإني أختار الله ورسوله، والدار الآخرة، ولا تخبرهن بذلك، قال: ثم تتبعهنّ فجعل يخيرهن ويقرأ عليهن القرآن، ويخبرهن بما صنعت عائشة -رضي الله عنها- وأجبن بمثل جوابها.
فسبب التخيير كان هو طلبهن التوسع في النفقة في الطعام والمتاع وزينة الحياة الدنيا، وكان ذلك بعد فتح مكة في السنة التاسعة من الهجرة النبوية .
ومن العبر والفوائد من هذه القصة :
- حسن عشرة النبي -صلى الله عليه وسلم- لزوجاته؛ حيث لم يشكهن لآبائهن ولم يعنفهنّ.
- سلامة زوجات النبي -صلى الله عليه وسلم- من تعلقهن بالدنيا وزينتها كباقي النساء.
- عدم تميز الرسول -صلى الله عليه وسلم- في زينة الحياة مم لباس ومتاع عن بقية الناس.
- أن متاع الدنيا مهما كان كثيراً فهو محدود وزائل، بينما متاع الآخرة هو الكثير الباقي.
- أن الجزاء قد يؤخر إلى الآخرة في جنة عرضها السموات والأرض.
- أن الدنيا دار عمل وعبادة، وأن الآخرة هي دار الحساب والجزاء والنعيم المقيم.
- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان مسؤول الدولة الإسلامية، ولو أراد جبال مكة ذهباً لكانت له، ولكنه القدوة هو ونسائه -رضوان الله عليهن- لبقية البشر.