أفضل جوابٍ عن هذا السؤال أعتقد أنّه موجودٌ في الترجمة العربية لمقال المؤرّخة والكاتبة الأميركية جيل ليبور، والذي كتبته في أبريل العام الماضي، وجاء تحت عنوان "تأريخٌ للوحدة"، وتاليًا نصّ المقال المترجم:
تُوفيت أُنثى الشمبانزي في حديقة حيوانات فلادلفيا، على إثر مضاعفات نزلة برد، في 27 ديسمبر من عام 1878، ووفقَ التقارير الصحفية، حدث ذلك وهي تتلقّى العناية من قبل زوجها ذي الأربع سنوات، الذي وُلِدَت معه على ضِفاف نهر الغابون غرب أفريقيا، قبل أن يَصِلا إلى فيلادلفيا في شهر أبريل. وبحسب مُشرِف الحديقة آرثر إي. براون، فإنَّ هذه القردة تُؤخذ صغيرةً بشكل فرديٍ أو زوجي، وتتآلف على النوم في أحضان بعضها، بينما كانت في الغابة تعيش كفرقٍ صغيرة مؤلَّفةٍ من ستةٍ، يبنونَ نوعًا من البيوت فوق جذوع الاشجار بواسطة أوراقها وأغصانها.
حديقة فيلادلفيا هي أول حديقة حيوانات في أميركا، وقد تم افتتاحها في عام 1874، بعد عامين فقط من نشر عالم التاريخ الطبيعي والجيولوجي تشارلز داروين كتابه “التعبير عن العواطف في الإنسان والحيوان”، والذي وضع فيه ما تعلّمه من مُشرفِ حديقة حيوان لندن أبراهام بارتلين عن الترابط الاجتماعي، حيث يقول داروين: “كثيرٌ من القردة بمختلف أنواعها -كما أكد لي مُشرفِ الحديقة- يشعرون بلذّةٍ وسعادةٍ من خلال مُداعبة الأشخاص المُرتبطين بهم. وقد وصف السيد بارتلين، سلوك شمبانزيين اثنين عند مجيئهما إلى الحديقة؛ حيث جلسا مقابل بعضهما وأخذا يلامِسان شفاهَهُما البارزة الغليظة، ثم داعبا بعضهما، وبعدها قاما رافعينِ أياديهما، والمُتعة تغمرهما”.
السيد والسيدة شمبانزي، كانا اثنين من أصل أربعة شمبانزي فقط في أميركا، وعند وفاتها تأثّر البشر المراقبون لحالتها بهذه الفجيعة. لكن الأهمّ كان ملاحظَتَهُم لسلوك شريكها، الذي بقي يُحاول إيقاظها لمدةٍ دون جدوى، ثم ولجَ في نوبةً من الحُزن. وهذا الشكل من التعبير عن الحزن، ظهر في الإنسان، كما وصفه داروين: “الإنسان الذي يُعاني من الحزن العميق، يسعى غالبًا إلى تعزية نفسه عبر القيام بحركاتٍ عنيفةٍ ومنفلتةٍ من عِقالهِا”. ثم بدأ الشمبانزي المثكول بتمزيق شعر رأسِه، وأخذ يبكي عبر صوتٍ أكّد مُشرِف الحديقة إنه لم يسمَع مثيلًا له من قبل: “هاه-آه-آه-أه-آه!” وكان بالإمكان سماعُه من جميع أنحاء الحديقة. وبعد ذلك، قام بِنطحِ رأسه في السياج والخشب، وحينَ أنهى نَحيبَهُ، وضع رأسه تحت القَشّ وبدأ بالأنين والنوحِ كما لو أن قلبَهُ قد تفجّر.
“لا شيء مثل هذا تمّ ملاحظته من قبل!” يقول مشرف الحديقة آرثر إي. براون، الذي كتب مقالًا علميًا صغيرًا تحت عنوان “الحزن عند الشمبانزي”. ولقد لاحظ أنّه حتى بعد فترةٍ طويلةٍ من موت أنثى الشمبانبزي ما زال الذكر ينام بشكلٍ ثابتٍ على العوارض أعلى القفص، ويعود ذلك إلى سلوكٍ موروثٍ لديه، يُظهِر ربّما قلقًا من خطرٍ غير ظاهرٍ، تَضَاعَفَ بسببِ حِسّ الوحدة لديه.
لكن البشر أكثر ميلًا للاجتماعية والاستئناس بالآخر، من الشمبانزي؛ فنحن نتلهّف للحميميّة ونكادُ نذبَلُ من دونها. حتى قبل ظهور وباء “فيروس كورونا المستجّد (كوفيد-19)” وما فرضهُ من عزلةٍ إجباريةٍ وتباعدٍ اجتماعيٍ قسري، كان البشر قد بدأوا ببناء “بيوت القردة” الخاصة بهم. وقبل الأزمنة الحديثة، كان القليل من البشر يعيشون لوحدِهِم، حتى بدأ الوضع بالتغيُّر بشكلٍ بطيءٍ قبل أقلِّ من قرن؛ ففي الولايات المتحدة كان يعيش واحدٌ من أصل أربعة لوحدِه، وفي المدن الكبيرة النسبة أكبر.
تستطيع أن تعيش لوحدِك بدون أن تكون وحيدًا، وبإمكانك كذلك أن تكون وحيدًا، بدون أن تعيش لوحدِك! لكن الأمرين مُرتبطين ببعضهما على نحوٍ وثيق، مما يجعل من عمليات الإغلاق والحظر والإقامة في مكانٍ واحدٍ أمرًا من الصعب تَحمُّله. ومن البَدَهي القول أنَّ الوحدة أمرٌ ضارٌ جدًا بصِحَّتِنا!
بين عامي 2017 و2018، أعلن الجرّاح الأميركي السابق فيفيك مورثي عن ما أسماه “وباء الوحدة”، فيما قامت بريطانيا بتعيين وزيرٍ للوحدة، ولتشخيص هذه الحالة/الوباء قام أطباءٌ من جامعة كاليفورنيا بابتكار مقياسٍ للوحدة، يَستندُ إلى السؤال التالي:
هل تشعرُ غالبًا أو أحيانًا أو نادرًا أو نهائيًا بهذه الأشياء؟
- أنا غير سعيدٍ بالقيام بكثيرٍ من الأعمال لوحدي.
- ليس لدي أحدٌ أتحدَّث معه.
- لا أقدر على تحمُّل وجودي لوحدي.
- أشعرُ أنَّ لا أحد يستطيع فهمي.
- لم أعُدْ مُقربًا لأحد.
- لا يوجد أحدٌ أستطيع اللجوء إليه.
- أشعر بأني معزولٌ عن الآخرين.
“الوحدة” مصطلحٌ فضفاض، وككلّ المصطلحات الفضفاضة، فإنّه يُغطّي الأشياء التي يُفضّل الناس عدم تسميتها بأسمائها الحقيقية، أو لا يملكون فكرةً عن كيفية تعديلها أو أصلاحها. العديد من الناس يُفضِّلون البقاء لوحدهم. أنا شخصيًا أفضل ذلك، لكن العزلة والخلوة وهي أشياء أحبُّها، تختلف بشكلٍ كليٍ عن الوحدة التي لا أُطيقُها! فالوحدة هي حزنٌ بشكل مُكثّف، كربٌ عميق.
علم الأعصاب يُعرّف الوحدة، على أنها حالةٌ من الإدراك التي تكمن أُصولها في أسلافِنا من الرئيسيات وفي حقبةٍ من ماضينا كانت قائمةً على الصيد. جُزءٌ كبيرٌ من البحث في هذا المجال كان بقيادة البروفيسور في مركز علم الأعصاب الإدراكي والاجتماعي في جامعة شيكاغو جون كاسيوبو، الذي تُوفي في عام 2018، وكان يُعرفُ باسم “طَبيب الوحدة”.
وفي كتابه “معًا: القوة الشافيَة للوضع البشري في عالمٍ وحيدٍ أحيانًا”، يوضّح فيفيك مورثي كيف تم اختبار نظرية كاسيوبو التطوريّة للوحدة، من قبل علماء الأنثروبولوجيا في جامعة أكسفورد، الذين قاموا بتعقّب أصولها، بالعودة 52 مليون سنةً إلى الوراء، وتحديدًا إلى الرئيسيات الأولى، حيث وجدوا أنها تحتاج للانتماء إلى مجموعةٍ اجتماعيةٍ مقرّبةٍ تمنحها شُعورًا بالحميمية؛ عائلة أو عُصبة في سبيل الحِفاظ على بقائها واستمراريتها، وهذا ينطبق بشكلٍ خاصٍ على البشر (فالإنسان الذي لا تعرِفُه قد يقتلك، وهذه مشكلةٌ لا تشاركنا إياها الرئيسيات الأخرى!). كذلك، فإنّ الانفصال عن المجموعة -كأن تجد نفسك لوحدِك أو وسطَ مجموعةٍ لا تعرفُك أو تفهَمُك- يُطلِقُ استجابةً قتاليةً أو يدفَعُك للهروب.
يرى كاسيوبو أنّ جسمك يفهم الوضع عندما تكون لوحدِك، أو بصحبة غرباء على أنه “حالةٌ طارئة”. ويقول مورثي: “على مدى آلاف السنين أصبحت حالة اليقظة تجاه العُزلة مُرسّخةً في جهازنا العصبي لإنتاج القَلَق المُرتبِط بالوحدة. نحنُ نتنفّس بسرعة وتتسارَعُ نبضات قلبنا ويرتفع ضغط دمنا ولا نستطيع النوم. نتصرَّف بدافِع الخوف بطريقةٍ دفاعيةٍ وبشكلٍ أناني، مما يدفع بعيدًا من قد يرغبُ فعلًا بمساعدتنا ويحولُ دون فعل الأشخاص “الوحيدين” لما يُفيدهم أكثر، أي التواصل مع الآخرين!
“وباء الوحدة بهذا المعنى، يُشبِهُ إلى حدٍ ما وباء السُمنة؛ فمن وجهة نظرٍ تطوريةٍ، الهلعُ بسبب البقاء وحيدًا، مثلُ العثور على طعامٍ لذيذٍ يحتوي على كميةٍ عاليةٍ من السُعرات الحرارية وتصعبُ مقاومة إغوائِه! أيّ أنّه قابلٌ للتكيُّف إلى حدٍ كبير. لكن في الفترة الأخيرة، وفي عالمٍ تمنَعُنا قوانينه من قتل بعضنا البعض -غالبًا!- نحتاج إلى العمل يوميًا مع غُرباء، كذلك فالأرجح أن نتعرّض لكميةٍ كبيرةٍ من الأطعمة ذات السعرات الحرارية بدلًا من القليل منها، وهذا بالطبع يؤدي إلى نتائج عكسيّة.
يُجادل مورثي بأن “وباء الوحدة”، يقفُ وراء مجموعةٍ من المشاكل الخطيرة مثل: القلق، العنف، الصدمة، الجريمة، الانتحار، الاكتئاب، اللامُبالاة بالسياسية وحتى الاستقطاب السياسي. لكنّه يرى أن ردّ كل شيءٍ إلى الوحدة حجّةٌ لا يمكن ابتلاعُها ولا هضمُها، لأسبابٍ عدة، ليس أقلّها أن الكثير مما قيل عن الوحدة، قد تم نسبه إلى التشرُّد في ثمانينيات القرن الماضي، عندما كان “التشرّد” هو المصطلح الفضفاض؛ كلمةٌ من السهل قولها بدلًا من “الفقر”، ولم يكن ترديدُها مُساعِدًا أبدًا، فمنذ ذلك الوقت أعداد المشرَّدين في أميركا كانت قد أخذت في الازدياد.
المُثير للاستغراب أن مورثي، غالبًا ما يَخلِط -مُتعمّدًا- بين المُصطلحين، إذ يعتقد أن الشعور بالوحدة كالشعور أنّك بلا مأوى، فيقول: “الانتماء إلى مجموعةٍ يعني أن تشعُر وكأنّك في منزلك، والشعور بأنّك في منزلك يعني أن يكون مُعترَفًا بِك”. والمنزل يمكن أن يكون في أي بُقعةٍ من الأرض، فالمجتمعات البشرية في غاية التعقيد لدرجة أن الإنسان تجمَعُهُ روابِط حميميّة، مع مُختلف أنماط الجماعات البشرية الأخرى حتى أولئك البعدين عنه مسافاتٍ طويلة، حيث يُمكنك أن تشعر وكأنّك في منزلك وأنتَ مع الأصدقاء أو وفي العمل أو صالة طعام الجامعة أو أماكن العبادة أو الملعب أو المقهى أو حانتك المفضّلة. إذًا الوحدة هي الشعور أنَّ لا مكان هو المَنزِل.
يذكر مورثي، أنه التقى أشخاصًا وحيدين، يشعرون أنّهم مُشرّدون على الرغم من وجود سقفٍ فوق رؤوسهم. ويرى أنّ كل ما يريده الأشخاص الوحيدون وأولئك الذين يُعانون من التشرُّد، هو مكانٌ يجمعهم مع بشرٍ آخرين يُحبُّونهم ويحتاجونهم، وأن يكونوا على معرفةٍ بأنّ هناك من يرغب بهم في مجتمعاتٍ تهتمّ بهم. ويؤكّد مورثي: “هذه ليست أجندةً سياسيةً، لكن يُمكن اعتبارها بمثابة إدانةٍ للحياة الحديثة”.
أمّا المؤرّخة البريطانية فاي باوند ألبرتي، وفي كتابها “سيرة العزلة: تاريخ العاطفة”، الصادر عام 2019، فتُعرِّف الوحدة بأنّها: الشعور بشكل واعٍ بالغرابة أو الانفصال الاجتماعي عن الأشخاص الذين يُشكّل وجودهم في حياتنا معنىً لنا”.
وتُعارِضُ ألبرتي فكرة أنّ الوحدة كونيةٌ أو عابرة للأزمنة أو أنها سببُ كُلّ آلامِنا؛ إذ لمْ تكُن موجودةً قبل القرن التاسع عشر أو على الأقل ليسَ بصورتها “المُزمِنة” في الوقت الراهِن. وتقول: “ليس الأمر أنّ الأشخاص -الأرامل والفقراء جدًا والمرضى والمنبوذين تحديدًا – لم يكونوا وحيدين، لكنّه كان من غير الممكن الاستمرارُ في العيش من دون إقامتنا مع بشرٍ آخرين أو من دون وجود روابط معهم، من خلال علاقات الالتزام والارتباط والمودّة، فلقد كانت الوحدة حينها مجرّد تجربةٍ عابرة. ربما كان الملوك والسلاطين وحيدين وبشكلٍ دائم (ويا لها من وحدةٍ جميلةٍ تلك التي تكون على قمّة الهرم!)، لكن بالنسبة لمُعظم العامة من الناس، الحياة اليومية تضمّنت شبكات معقّدة من الاعتماد والتبادل والمأوى المشترك، وأن تكون وحيدًا بشكلٍ دائم بدون هذه الشبكات، يعني أنك تُلقي بيدِكَ إلى التَّهْلُكَة!”.
وبحسب ألبرتي، كان ظهور كلمة “الوحدة” باللغة الإنكليزية، نادرًا قبل عام 1800م. “روبنسون كروزو”، مثلًا، كان لوحدِه لكنه لم يكن وحيدًا! ربما الاستثناء الوحيد هي شخصية أوفيليا في مسرحية “هامليت” لوليام شكسبير، حيث (تحذير: حرقٌ للمسرحية!) كانت تُعاني من الوحدة وأغرقَت نفسها. الوحدة الحديثة من وجهة نظرِهَا أيضًا، وليدة الرأسمالية و العلمانية؛ فالعديد من الانقسامات والهرميّات التي تطوّرت بعد القرن الثامن عشر، ما بين النفس والعالم، الفرد والمجتمع، الخاص والعام، تم تطبيعها من خلال الفلسفة الفردانية وسياساتها. وليس من الصدفة أن لُغةً خاصةً بالوحدة ظهرت في الوقت نفسه. وتشير ألبرتي إلى أنّ صعود الخصوصية بحد ذاته مُنتَجٌ للرأسمالية (حيث تغدو الخصوصية شيئًا يُمكنك شراؤه) وهو أمرٌ مُحرِّكٌ للوحدة ومُغذٍّ لها، والشيء ذاته ينطبق على الفردانية، الذي ينبغي عليك أن تدفَعَ من أجلِها!
كتاب ألبرتي هو تاريخٌ ثقافي (وقد قدّمت قراءةً فريدةً من نوعها لرواية “مرتفعات وذرينج” للكاتبة البريطانية إيميلي برونتي، وأخرى لرسائل الشاعرة والروائية الأميركية سيلفيا بلاث) لكن التاريخ الاجتماعي أكثر تشويقًا، إذ تُوضّح الدراسات أنّ “وباء الوحدة” مرتبط بشكلٍ وثيق بعيش المرء لوحدهِ، ومن الصعب تحديد إذا ما كان العيش المُنفرِد يجعل الأشخاص يشعرون بالوحدة أو أن الأشخاص يعيشون لوحدِهِم لأنّهم وحيدون، لكن الأدلة تُرجّح السبب الأول؛ إنها قوة التاريخ وليس تأثير الصُدفة الذي يجعل الأشخاص يعيشون لوحدِهِم، وهذه مشكلة الذين يحاولون مكافحة “وباء الوحدة”، إنهم لا يدركون أن التاريخ لا يأبَهُ بأحد!
قبل القرن العشرين، وفقًا لدراسات ديموغرافية مُوسّعة، كانت أكثر من 5% من المنازل (ما يقارب 1% من التعداد السُكّاني في العالم في ذاك الوقت) تتكوّن من شخصٍ واحد، ولقد تزايد الرقم منذ عام 1910 مدفوعًا بالتمدُّن وقلّة الخدم داخل المنزل والتراجع في نسب المواليد واستبدال الأسرة الممتدّة بتلك النووية. وفي الوقت الذي نشر فيه السوسيولوجي الأميركي ديفيد ريسمان كتابه “القطيع الوحيد” عام 1950، كانت 9% من المنازل تتكون من شخصٍ واحد.
وفي عام 1959، اكتشف الطب النفسي الشعور بالوحدة، عبر مقالٍ بارعٍ من قبل المُحلّلة النفسيّة الألمانية فريدا فروم ريخمان، التي ترى أن الشعور بالوحدة هو تَجربة مؤلمة ومُخيفة، لدرجة أن الناس سيفعلون أي شيءٍ لتجنُّبِها. وتقول ريخمان: “إنّ التوق للعلاقات الحميمية يبدأ مع الأنسان منذ الطفولة ويستمرّ معه مدى الحياة، ولا يوجد أي كائنٍ بشري لا يشعر بأنّه مهدَّدٌ بفقدان هذه العلاقات”. وتوضّح ريخمان أنّ الأشخاص غير الوحيدين يرتعبون من الشعور بالوحدة، لذلك يحاولون تجنُّب أن يكونوا لوحدِهِم، ويخشون أن يكون هذا الشعور مُعديًا، أما الأشخاص الذين يشعرون بالوحدة، فهم أنفسهم مذعورون مما يتعرّضون له، لدرجة أنهم يصبحون كتومين ومهووسين بذواتهم، الأمر الذي يُكوِّن لديهم قناعةً حزينةً بأنه لا يُوجد شخصٌ تعرَّض أو سوف يَتعرّض لِمَا َمرّوا به. وتشير ريخمان إلى أنَّ إحدى مآسي الشعور بالوحدة هي أن الأشخاص الوحيدين لا يدركون بأنّ كثيرًا من الناس يشعرون مثلهم.
في كتابه الصادر عام 2012 “الذهاب منفردًا: الصعود الاستثنائي والجاذبية المدهشة للعيش لوحِدك”، يقول السوسيولوجي الأميركي إريك كلينينبرغ: “خلال نصف القرن الماضي شَرَعَ جِنسُنا البشري في اختبار تجربةٍ اجتماعيةٍ مميّزةٍ، وللمرة الأولى في تاريخنا، بدأ عددٌ كبيرٌ من الناس، من جميع الأعمار وفي كافة الأماكن وعلى اختلاف معتقداتهم السياسية بالاستقرار كأفراد”. ويعتبر كلينينبرغ ذلك إنجازًا ونصرًا، لكن لكل شيءٍ ثمن؛ فابتداءً من ستينيّات القرن الماضي، نسبة البيوت التي يعيش فيها شخص لوحدِه، ازدادت بنسبةٍ حادةٍ مدفوعةً بارتفاع نسبة الطلاق وانخفاض معدل المواليد.
الكتب الطبيّة حول الشعور بالوحدة، بدأت بالظهور في ثمانينيات القرن الماضي، بالتزامن مع اهتمام صانعي القرار السياسي بـ”التشرُّد” واطلاق هذا الاسم عليه، وهي بالطبع حالةُ أكثر خطورةً من عيش شخص واحدٍ بمفرده! وفي التسعينيات، بدأ كاسيوبو بحثه، في الوقت الذي كان البشر يبنونَ شبكات حاسوب تربطهم ببعضهم عن بعد. أما كلينينبرغ الذي تخرج من الجامعة في العام 1993، فكان قد بدأ بتركيز اهتمامه على الأشخاص الذين يعيشون لوحدِهِم.
أفترضُ أني كنت واحدةً منهم، فلقد حاولت العيش بمفردي عندما كنت في الخامسة والعشرين من عمري، لأنّه السنُّ الذي أستطيع فيه دفع الإيجار معتمدةً على نفسي. والآن أقول لكُم، كنت قادرةً على شراء خصوصيّتي، وكنت سأُحقّق ذاتي بالعيش بمفردي! لكن الأمر لم يطل أكثر من شهرين؛ لم أكن أحب مشاهدة التلفزيون لوحدي، حتى أنّي لم أشترِ واحدًا، وإن لم يكن الوقت حينها هو العصر الذهبي للتلفزيون، هو كان كذلك بالنسبة لمسلسل عائلة سيمبسون، لذلك بدأت بمشاهدته مع الشخص الذي يسكن في الشقة المجاورة لي، ثم انتقلت للعيش معه ومن ثم تزوّجنا!
تجربتي هذه ربما لا يمكن لها أن تتماشى مع القصة التي يرويها كلينينبرغ؛ فهو يُجادل بأن تقنيات الاتصال الشبكي التي بدأت مع الانتشار الواسع للهاتف في خمسينيات القرن الماضي، ساعدت في جعل عيش الإنسان بمفردِه ممكنًا، واليوم يُمكننا الشعور بأنّنا في المنزل، من خلال اتصالنا بالإنترنت وتواجدنا الدائم على شبكته. وفي كتابه المُهم عن تَفكُّك روابِط المجتمع الأميركي، يقول عالم السياسة روبرت بوتنام إنّ ممارسة لعبة البولينج بشكلٍ منفرد، ظهرت في عام 2000، أي قبل أربع سنوات من انطلاق “فيسبوك”. ويعزو البعض نجاح شبكات التواصل الاجتماعي إلى “وباء الوحدة”، فيما يعتقد آخرون بأنها ساهمت في نشره، وفي المقابل يرى كثيرون أنّ شبكات التواصل هي العلاج الوحيد لهذا “الوباء”.
أن يعيش المرء لوحدِه، ليست ظاهرةً غريبةً على المجتمع الأميركي، ومع ذلك هي أكثر شيوعًا في أجزاءٍ أخرى من العالم، من ضمنها الدول الإسكندنافية، اليابان، ألمانيا، فرنسا، بريطانيا، استراليا، كندا، وهي في تزايدٍ ملحوظٍ في الصين والبرازيل والهند. والعيش منفردًا، يكون فعالًا أكثر في الدول ذات الدعم الاجتماعي المتماسِك، لذلك تكون تبعاتهُ سيئةً في بلدٍ مثل الولايات المتحدة، ومن الأفضل إذا أردت العيش لوحدِك أن لا تملِك فقط شبكة إنترنت، بل أيضًا شبكة ضمانٍ وأمانٍ اجتماعي!
والآن نحنُ نعيش في حجرٍ صحيٍ كونيٍ: عُزلةٌ قسريّة وتباعدٌ اجتماعي وحظر تجوّل وإغلاقاتٌ في كل مكان؛ حديقة حيوانات بشرية ولكنّها مع ذلك غير إنسانيّة! برنامج “Zoom” للتواصل عن بعد، على سبيل المثال، أفضل من لا شيء! لكن إلى متى؟ وماذا عن لحظة انقطاع الاتصال؟ والذعر الذي قد يصيبك جرّاءها؟ إنها حتمًا تجربة قاسيةٌ ومخيفة، اختبارٌ للقدرة البشرية على تحمل الشعور بالوحدة؛ هل شددت شعرك ومزّقته؟ هل أخذت تنطحُ رأسك في جدران هذا “السجن المنزلي”؟ هل تكتم في أعماقك بكاءً وأنينًا وانهيارًا؟ نهائيًا أو نادرًا أو أحيانًا أو.. غالبًا؟!