إذا كان من الممكن وصف غاسبر نويه بكلمة واحدة، فهي أنّه مزعج، إنّه كطفل لا يهنأ إلّا بإزعاج الآخرين وتعكير صفو حياتهم، لكنّه يفعل ذلك على نحوٍ جذّاب! إذ يخلق كابوسًا مزعجًا ومرعبًا إلى أبعد حد؛ دماء وجنون وهلوسة جماعية وعنف ونار وفوضى.. وموت، لكّنك مع ذلك لا تهرب. فكابوس نويه هذا مخلوق بقالب بديع، متحرّر من أي نسقٍ ونظام وتقليد بالصورة والكتابة، ويعمل وفق نظام وحيد.. نظام الفوضى والعالم المهزوز، المنفلت من عقال العقل. ويبدو أنّ النشوة/الذورة في العنوان ليست نشوة/ذروة أبطاله، بل نشوتنا نحن بالدم والفوضى والجنون والعنف والقتل، بكل تلك الأشياء التي ندّعي نحن المتحضّرون أننا ضدّها. لكن في عالم وريث بيير باولو بازوليني، الفرنسي -أرجنتيني الأصل- العصيّ على التصنيف، ليس ثمة حضارة ولا حداثة، فالبشر في أعماقهم بدائيون، غرائزيون وهمجيون وليس هناك ما هو أكثر قوّة من المتعة، من الشهوة لفضح هذا الجانب، لإماطة قناع الحضارة والتمدّن والحداثة عن الوجه الحقيقي للطبيعة البشرية.
لا يخرج نويه أسوأ ما في شخصيات فيلمه فقط، إذ إنّ هذا الإخراج لأحلَك ما في باطن النفس البشرية، مجرّد وسيلة لإخراج أحلك وأسوأ ما فينا نحن المشاهدين! مخاوفنا ورغباتنا الدفينة أسيرة عقلنا الباطن والتي نواجهها في أحلامنا، تتمثّل لنا في نشوة نويه الذي دائمًا يعرّينا، يحطّ من قدر الإنسان، يقول لنا إنّ البشر مبالغ في تقديرهم، وهو يبدو متأثرًا بهيتشكوك وكوبريك وبازوليني من ناحية عدائه للبشر، عبر إبراز جوانبهم الدنيئة، المخبّئة تحت رداء الحضارة والمدنية. أو ربما هو يحبّ الإنسان كثيرًا، ربما هو أكثر المخرجين إنسانيةً، وأعماله احتفاء بالإنسان الأصيل، العنيف والدموي والشهواني.. الإنسان الذي لا يمكن فهمه بلغة العقل والمنطق.
منذ البدء عالم نويه غير أخلاقي وعديم القيمة وسوادوي (وحدي أقِف 1998) وغير منطقي وغير عادل وغير رحيم (لا رجعة 2002) ولا عقلاني وشهواني على نحوٍ مريض (عشق 2015)، وهذا هو تاريخ البشرية باختصار! وفي “نشوة” يبدو عكس ذلك في البدء، حتى يبدأ الإنسان بالانغماس في المتعة، وتحرّكه الشهوات الدفينة والرغبات المكبوتة ووهمه بإمكانية التجاوز والتعالي، صوب الفوضى واللامنطق والجنون وانعدام أي قيمة. فيتحوّل هذا التجمّع البشري إلى سيرك لمخلوقاتٍ لا هي بشرية ولا حيوانية.. إلى نوع من الـ freak show!
قد يبدو الفيلم معاديًا لمذهب المتعة (Hedonism)، قد تسيء فهمه فتظنّ أنه يقول أنّ اللذّة والمتعة تقودان إلى الهاوية، إلى الموت، لكن، هو ليس كذلك، هو مُتَعي (Hedonist) بحقّ، مُتَعي أصيل، وهل ثمّة متعة أكبر من الموت؟! هل ثمّة ما يثير الفضول أكثر منه؟ يقول الفيلم في نهايته إن الموت حدثٌ استثنائي! سيحدث للجميع، إنّه أكثر شيء مثير وغامض وعادل ولا طبقي في الحياة. إن الـLSD trip التي يمرّ بها هؤلاء الشباب المتنوّعون عرقيًا وجندريًا وجنسانيًا، هي رحلة رقص للموت -على إيقاع موسيقى إلكترونية لفنّانين مثل: جورجيو موردر، مارك سيرون، أفيكس توين، دافت بانك- وتبدو كل الشهوات في الفيلم مفضيةً إلى الشهوة الكبرى والنشوة العظمى.. الموت.