بداية اعتقد أنه من المهم جدا لنا أن نكون مثقفين نفسيا، وجزء من علاج الاضطرابات النفسية هو أن نثقف نفسنا بها ونتعلم أسبابها و طرق علاجها ،وأحد هذه الاضطرابات هو اضطراب الوسواس القهري .
الوسواس بشكل عام عبارة عن أفكار سريعة متكررة ومستمرة ومتسلطة ووسواسية، بالإضافة إلى الصور الذهنية وأيضا اندفاعات فكرية بأن تفعل كذا ولا تفعل كذا، وهي تكون متطفلة، أي أن الشخص لا يرغب بها إطلاقا، تأتيه بصورة اقتحامية، إما أن تكون معاكسة لقيم الشخص أو أنه غير راغب بها، ينتج عنها انزعاج وقلق وتوتر و أحيانا شكوك واشمئزاز، وتقزز وقرف وانزعاج وعدم راحة على الإطلاق، ونتيجة لها يصبح الشخص يمارس بعض السلوكيات الذهنية والعقلية، أو السلوكيات الخارجية الظاهرية، من أجل التخفيف من هذه الوساوس أو تحييدها للتقليل من التركيز عليها، وهي ما يسمى بعلم النفس "الأفعال القهرية".
للوسواس أنواع و أشكال كثيرة، لذا يسمونه علماء الطب النفسي "اضطراب الألف وجه"، ومن المهم جدا أن نميز بين الوساوس و الأفعال القهرية، حيث أن الأفعال القهرية باختصار هي سلوكيات ذهنية عقلية أو كلمات يتم ترديدها أو أفعال ظاهرية خارجية يمارسها الشخص بهدف التقليل من التوتر الناتج عن هذه الوساوس، لذلك يبدأ العلاج بتحديد ما هي الوساوس التي تأتي، و ما هي الأفعال التي أفعلها استجابة لتلك الوساوس.
إن الحلقة المفرغة التي يدور فيها الشخص الذي يعاني اضطراب الوسواس القهري، تمر في مراحل متكررة على التوالي هي :
أولا: الوسواس الفكري والصور الذهنية المستمرة والاندفاعات الفكرية والأفكار المتكررة
ثانيا: مباشرة يتبعها القلق والتوتر والضيق والانزعاج والاشمئزاز والتقزز وشكوك معينة لأنه أمر مخالف لقيمك وصورتك الذاتية و طبيعتك الحقيقية
ثالثا: تمارس الفعل القهري، بهدف الشعور بشيء من الراحة والاطمئنان والاسترخاء من هذا القلق، ولكن للاسف يعود الوسواس بعدها مرة أخرى وقد يزيد.
ويعتمد شكل هذا الفعل القهري على نوع الوسواس، على سبيل المثال الوسواس الكفري، هو وسواس يأتيك ليقول لك "اكفر، سب الدين، …) وفي هذه الحالة من المستحيل أن يكون الفعل القهري لك استجابة لهذه الوساوس، فغالبا في هذه الحالة سيكون الفعل القهري أن تقوم بفعل معاكس للقضية الكفرية، مثلا أن تصلي أو أن تستغفر أو تبدأ بالدعاء، إذا هذه أفعال قهرية، والسبب هو أنها تسبب الشعور بالراحة وتقلل من الخوف والتوتر.
أما في حال وسواس النظافة والطهارة، يكون الفعل القهري عن طريق الاستجابة للوسواس، وممارسة الفعل القهري بطريقة ظاهرية سلوكية يتمثل في القيام بالتنظيف في سبيل التخلص من التوتر، ومن الأمثلة الأخرى التحقق، مثل التحقق المتكرر من إغلاق جرة الغاز خوفا من حصول انفجار، أو التأكد عدة مرات من إغلاق شبابيك المنزل قبل تركه، أو تكرار عملية الحساب، أو عد النقود أكثر من مرة.
إن ما بين الوسواس وشعورك بالقلق والانزعاج، هنالك العديد من العمليات المعرفية، وفكرتك عن الفكرة الوسواسية، والعديد من المشاعر والأحاسيس والسلوكيات، أي ردود أفعالك النفسية والسلوكية اتجاه هذه الوساوس، فهي تزيد من مستوى القلق والانزعاج ومن ثم تمارس الفعل القهري لتشعر براحة بسيطة.
للأسف الشديد أن أغلب مرضى الوسواس يذهبون للعلاج النفسي في مرحلة متأخرة، بحيث يكون الوسواس شديدا وقد أصبح معيقا لحياة الإنسان، فإذا لاحظت نفسك، فإنك في بداية الوسواس، كان الوسواس بسيطا، دائرة الوسواس صغيرة، ودائرة القلق التوتر ايضا صغيرة و بسيطة، والأفعال القهرية أيضا كانت بسيطة وقليلة، أما الشعور بالراحة بعد ممارسة الفعل القهري قد كان كبيرا ولفترة طويلة نسبيا.\، إلى أن يعود الوسواس، ومع التقدم الزمني، ومع عدم التعامل مع الوسواس، وعدم فهم هذا الاضطراب، وعدم طلب العلاج، وعدم معرفة الطريقة الصحيحة للتعامل معه، وكثرة الاستجابة للوسواس بردود فعل سلبية ، تبدأ دائرة الوسواس تكبر، ودائرة القلق والانزعاج تكبر، ودائرة الأفعال القهرية تكبر، وللأسف الشديد دائرة الشعور بالارتياح بعد ممارسة الفعل القهري تصغر ومدتها قصيرة جدا، مما يؤدي الى أن يرجع الوسواس سريعا.
توجد عدة نماذج علاجية للوسواس القهري،
العلاج الأول والأقدم تاريخيا هو العلاج الدوائي، الطبيب النفسي هو المختص باختيار جرعات الأدوية المناسبة للمريض بحسب حالته، وطبيعة الأدوية التي يتم صرفها لهذا الاضطراب النفسي غالبا ما تكون مضادات للاكتئاب، وهي تعطى ليس لأنه مصاب بالاكتئاب، إنما تركيبتها الكيميائية تستخدم مع اضطراب الوسواس القهري، ومع اضطرابات القلق، والصدمات النفسية، والكثير من الاضطرابات النفسية الأخرى خاصة الأمور المتعلقة في المزاج وبمشاكل هرمون السيروتونين، بالإضافة إلى مضادات الذهان وليس لأنه ذهاني، وليس أن لديه انفصاما، إنما لأن تركيبة الدواء الكيميائية مع مضادات الاكتئاب تساعد الشخص المضطرب.
العلاج الثاني هو العلاج السلوكي المعرفي، وهو مختلف تماما عن علاج اضطرابات القلق والاكتئاب بآلياته و شكلياته، وغالبا ما يكون العلاج المعرفي عن طريق تفكيرك تجاه ذاتك عموما، وتجاه الحالة المرضية، أو المشكلات المحيطة بك، ويتم العلاج ببعض التدريبات والاستراتيجيات مثل الاسترخاء والتخفيف من شعورك بالمسؤولية الناتجة عن الوسواس.
العلاج الثالث هو العلاج عن طريق التعرض ومنع الاستجابة، إلا أنه لا يصلح مع جميع أنواع الوسواس القهري،لذلك هناك بعض التحفظات على هذا النوع من العلاج، لأنه في بعض الأحيان قد يزيد من مشكلة الوسواس بدلا من التقليل منه، ومنها الوساوس الجنسية أو الوساوس الدينية و الوساوس العقائدية.
العلاج الرابع هو العلاج ما وراء المعرفي وهو هام جدا، وهي تتضمن ما هي فكرتك ومعتقداتك وقناعاتك عن الفكرة الوسواسية، وما هي أفكارك عن المحتوى الوسواسي، لأن الوسواس ليس خطأ في التفكير، وليس أفكار سلبية، إنما الوسواس هو عبارة عن خلل في كيمياء الدماغ، سببت أفكارا متطفلة و غير مرغوب فيها، ومحتوى الوسواس تكون غير مؤمن به، إلا أنك تضطر للاستجابة له لتقليل القلق.
العلاج الخامس هو العلاج بالتيقظ الذهني، وهو فعلا أدى الى طفرة في علاج مشكلات كثيرة من ضمنها الوسواس القهري، وهو يعالج ردود الأفعال الخاطئة اتجاه الوسواس و يدرب على كيفية عدم الانصهار والاشتباك .
وآخر أنواع العلاج التي يستخدمها المتخصصين النفسيين هو العلاج السادس، اسمه العلاج بالقبول و الالتزام، وهو يركز على القيم الشخصية و على عدم الاستجابة مع الوسواس، فهي أفكار عابرة عليك أن لا تتصرف ولا تتأثر بهذه الأفكار العابرة، فهي لا تمثل شخصك ولا تعبر عنك.
لو كنت سليما وغير مضطربا ولا مصابا بأي من انواع الاضطرابات النفسية أو الوساوس القهرية، إلا أن مجرد علمك بها وفهما سيعود عليك بالفائدة.