تجربة الأمومة هي تجربة فريدة ولا مثيل لها عند أغلب الأمهات. إذ تجد الأم تفردًا في العلاقة بينها وبين جنينها في أشهره التسع في بطنها. هذه العلاقة تنمو يومًا بعد يوم، في كل حركة يقوم بها هذا الصغير المشاغب تصبح تلك الرابطة الشفافة أقوى. في كل فحص تقوم به الأم لتطمئن على ذلك الكائن في أحشائها، تتوطد العلاقة أكثر لتنمو كشجرةٍ باسقة ٍ تمتد حتى تعانق عنان السماء. تلك اللحظات التي تذكرها كل أم، وتسجلها في ذاكرتها الصوريّة، لتسترجعها حينما يكبر ذلك الجنين، ويصبح طفلًا ، فيافعًا، فشابًا، فرب عائلة ، فكهلًا كبيرًا. إلا أنه يبقى ذاك الصغير في نظر أمه. ذاك الصغير الذي لا يكبر مهما طال عظمه، وغلُظ جسمه، وتعاظمت أطرافه، وقويت شكيمته. يحضرني ذلك المنشور الذي كتبه أحد الأشخاص، وقد بلغ قرابة الستين من عمره الذي توضأ وكان ذلك في يومٍ شتائي بحت. وعندما قام ليتوضأ ليمضي للمسجد، وقد كان نائمًا في منزل والدته في مدينة سكاكا وأخذ يستعد للذهاب إلى المسجد لأداء صلاة الفجر ، إذ تفاجأ بوجود حذائه بجانب مدفأة الكاز التي قامت والدته بإشعالها قبل استيقاظه لتدفئته قبل ذهابه لأداء الصلاة، فما كان منه إلا أن بكى بشدة كطفل صغيريستعيد ذكرياته مع والدته. وقام بتصوير ذلك الحذاء وكتابة تغريدة على تويتر ليشاركها مع العالم جميعًا، وكتب قائلًا:" تجاوزت الستين من غمري، ونمت البارحة عند الوالدة. قمت لصلاة الفجر ، وجدتها وضعت حذائي عند المدفأة، جزى الله والدينا الجنة".
كنت في سن الواحد والعشرين، عندما بدأت رحلتي مع الأمومة. كنت وقتها طالبة في الجامعة، تصارع ما بين إكمالها لدراستها الجامعية، ورعايتها لطفلها. كانت ولادة طفلي في شهر تموز، وكنت قد تجاوزت الفصل الصيفي وقررت الجلوس في المنزل حتى ولادتي، وقد كان. كانت التجربة بالنسبة لي غريبة، وجديدة. فقد كان ابني هو أول الأحفاد من الأبناء لبيت أهل زوجي، وكنت أكبر إخوتي، وكان ابني أول الأحفاد لبيت أهلي. ولذا كان هناك العديد من التخبطات، والنصائح وأحيانُا كثيرة التدخل بسبب الخبرة الطويلة في التربية من قبل الطرفين.
لذا شعرت بالتشتت، وعدم القدرة على الصمود ساعة خوض هذه التجربة الغامرة، حتى أنني كنت أبك كثيرًا لوحدي عندما يبكي طفلي، لأنني لا أدري ما الذي يجب علي فعله، خاصة ليلًا حيث زوجي يريد أن ينام، ولا يرغب بسماع بكاء الصغير. حتى بدأت في الشعور بعم الارتباط بهذا الصغير. كنت فقط أعمل ما علي عمله تجاهه، من رضاعة وتنظيف وغسل ملابس، ولا أحمله إلا إذا بكى بشدة، فهناك من يقوم بهذه المهمة على أكمل وجه؛ إذ كنت أعيش في بناية يسكن بها أهل زوجي، وعلى الأغلب يأتون صباحًا ليأخذوه، وليس بيدي حيلة أن أرفض إلا في حالة كان مريضًا، فلا يقومون بأخذه ويتركونه لي. لذا بدأت علاقتي بهذا الصغير تقل شيئًا فشيئًا، وأحسست بالاغتراب عنه، وبقيت العلاقة كذلك لستة أشهر، ثم تحسنت كثيرًا وخاصة بعد وعيه وإدراكه من هي والدته، وتعلقه بي بشدة، بالرغم من استكمالي لدراستي عندما بلغ الشهر الثامن، وتركي له عند والدة زوجي لترعاه حتى أنتهي من يومي الجامعي.
بعد سنوات عدة تداركت ما كنت أواجهه في تلك الفترة، إنه اكتئاب ما بعد الولادة. لم يكن من حولي يدركون ما بي، ولم يتمكنوا من اكتشاف سبب فتور تلك العلاقة، حيث لم تكن تلك الأعراض معروفة لدى الجميع، وقد كانوا يميلون لإكساب تلك المشاعر صيغة الدلع والدلال الزائد، وعليَّ الكف عن ذلك والتعامل كأم ناضجة واعية وليس كطفلة مدللة. فمن أعراض اكتئاب ما بعد الولادة التي كنت أعانيها الدخول في نوبات مطولة من البكاء، حدوث تقلبات مزاجية متنوعة وحادة، الشعور بالكآبة دومًا، وجود صعوبة في التعلق بطفلي، مع الرغبة في الاعتزال. الشعور بالقلق والتوتر وعدم القدرة على النوم، فقدان الطاقة خلال اليوم تدريجيًا، والغضب لأتفه الأسباب، وقلة الشعور بالسعادة والابتهاج. مع الشعور بالذنب والعجز وقلة التركيز. وبوجود هذه المشاعر المتضاربة، كان عليّ إخفاؤها مما تطلّب مني جهدًا إضافيًّا لتمثيل البهجة والسعادة. لكن أمي هي الوحيدة التي لاحظت ذلك، وتحدثت معي كثيرًا عن الموضوع ، حتى قررت أن أقف على قدمي، وأرجع لذاتي القديمة التي لطالما كانت قوية مثابرة. وهنا بدأت لملمة الذات، والترابط مع هذا الصغير العزيز.
نصيحتي لك عزيزتي، عليك قراءة بعض الكتب حول الأمومة وتربية الطفل، ويمكنك أخذ بعض المساقات عن تربية الأطفال، وكذلك الاستعانة باستشارية أسرة، وبتجارب الأمهات من حولك من أقرباء وصديقات وولدتك ووالدة زوجك بحيث تأخذين ما يصلح لك ولشخصيتك، فما يكون صحيحًا في التربية سابقًا، قد لا يكون صحيحًا في الوقت الحالي.
المصادر: