علم الاجتماع يختص بدراسة العلاقات الاجتماعية وأنماطها، وحين نناقش الأمومة من وجهة نظر علم الاجتماع، أول ما يتبادر الى أذهاننا فكرة إن ما إذا كانت الأمومة غريزة أم قرار، ونبدأ بتفحص المفاهيم والمعتقدات التي ورثناها من آبائنا، ومن بيئتنا، ومن مجتمعنا الذي نعيش فيه، ومن الثقافة التي تسود في البلد الذي نعيش فيه، لذلك حين نتعامل مع علم الاجتماع والذي يعتبر علم النفس أحد أركانه الأساسية، يجب أن نكون جاهزين للمفاجآت، ومستعدين لسماع معلومات لا تتطابق مع معتقداتنا، وبالرغم من أن ما نسمعه قد يتنافى مع قناعاتنا بشكل جذري أحيانا، إلا أنه لا مفر لنا غير أن نقبله ونقبل إنجازات هذا العلم، ونتحرك وفق ذلك.
وعلى ضوء ذلك، نرجع الى أهم سؤال يخص الامومة من وجهة نظر علم الاجتماع، هل الأمومة غريزة أم قرار؟يجيب علم الاجتماع بأن الأمومة ليست غريزة كما يظن أغلبية البشر إنما هي إحساس، يختلف من امرأة الى أخرى، حسب البيئة التي نعيش فيها، وحسب الظروف.
في كثير من الدول، يتم تربية المرأة منذ الطفولة، ليصبح حلمها الأرقى والأسمى، هو أن تصبح أما و تلد أطفالا، وبالطبع تحقيق حلم الزواج أولا، وأن تتهيأ لتكون ربة منزل صالحة في البيت والمطبخ.
يعتقد الكثيرون أن المرأة هي نفس المرأة في كل مكان و زمان، وأن كل أنثى تولد معها غريزة الأمومة، وهذا اعتقاد خاطئ، فكما أن هنالك اختلاف بين امرأة وأخرى من حيث الشكل والشخصية والميول والصفات النفسية، فإن النساء يختلفن عن بعضهن فيما يتعلق بالإنجاب والطفولة، ومن وجهة نظر علم الاجتماع، ليست كل امرأة أما بطبيعتها، وإن تعريف غريزة الأم بشكل عام، يستخدم للتعبير عن موقف الأم تجاه وليدها، والذي يتمثل في حمايته وتأمين حياة مستقرة و أمينة له، وهذا الموقف بالإجمال موقف طبيعي بالنسبة لبقية الأمهات عموما، ومن هنا أتت تسمية غريزة الأمومة.
في الواقع إن الهرمونات الانثوية هي التي تدفع الأم للإعتناء بطفلها ورعايتها له، وليست الغريزة. إلا أن هذه الهرمونات غير كافية لتكوين علاقة طبيعية بينهما، لذلك نجد في الكثير من الأحيان أمهات يهملن أطفالهن و يتجاهلنهم، و في بعض الأحيان يسيئون معاملتهم، أو يعاملونهم بعدوانية، فيتخلون عنهم، ويسلمون تربيتهم إلى الجدة أو الأقرباء، وهذا يدل على أن الأمومة ليست تصرفا غرائزيا، بل و بكل ثقة نقول: أن الأمومة نتيجة عملية تكتسبها الأم خلال علاقتها بطفلها وعنايتها به.
هنا لا يسعني إلا أن أتذكر أمثلة حية ماثلة في ذهني، ومن تلك الأمثلة عن فيلم أمريكي مشهور، حين تسجل إحصائيات الولادة للأبقار في مزرعة مشهورة جدا في الولايات المتحدة الأمريكية، انخفاضا كارثيا، و للمصادفة، زوجة صاحب المزرعة تتمرد أيضا على زوجها، رافضة أن تتحول إلى ماكنة ولادة أطفال، وتهرب المرأة بعد أن سئمت من حياتها كمنجبة للأطفال في ظل روتين قاتل، تحت رحمة الزوج، إلى أفق حرة بعيدة، تستطيع فيها أن تقرر أن تنجب متى أرادت إذا أرادت أصلا. يعني ذلك أنها تهرب من القفص والسلاسل التي فرضت عليها المجتمع، وفعلا أنا أتفق، المرأة لم تأت الى هذه الحياة فقط لتكون أما، و أن تنجب وتعيش غريزة الأمومة فقط، مع العلم أن هنالك الكثير من الأمهات اللواتي يكتفين بهذا الشعور، و يعتبرونه من سنة الحياة، وهن سعيدات بهذا الدور، ولا ترين أنفسهن خارجه.
ولكن في نفس الوقت هنالك نساء تفضلن الحياة العملية على الأمومة، كما أنهن يخترن القوام الرشيق، والصحة، على الإنجاب والأمومة، و غالبا ما يكون الخوف من الأمومة وتأثيرها على مظهرهن، هو السبب في ابتعاد النساء عنها، والتي يتطلب عملهن الظهور بمظهر لائق.
على المجتمع أن يتقبل المرأة كما هي، بكل ميولها و توجهاتها ورغباتها، ولكن الأهم من ذلك هو أن المرأة نفسها، يجب أن تجد في ذاتها القوة الكافية لتتقبل نفسها، وتعترف أنها لا تمتلك ما يكفي من المؤهلات لتكون أما .
على المرأة أن تسمع لقلبها و عقلها، وليس لصوت المجتمع، فهي قادرة على أن تبدع في كافة مجالات الحياة . ألم نتباهى و نفتخر بكثير من النساء الأديبات وعالمات الفلك و الطبيبات والمهندسات؟ ألا نرى في لائحة الأغاني التي نسمعها يوميا، أن النساء الفنانات والموهوبات تأتين في المقدمة ؟
هناك نساء تحكم و تقدن دول ، وتبنين المستقبل، وهناك قاضيات و رئيسات حكومات، ولكنهن في الجانب الآخر قد يفشلن في كونهن أمهات. إذا يجب أن نصرح أن الأمومة ليست واجبا أو فرضا، هي في الحقيقة إحساس يبدأ صغيرا، وقد ينمو مع الوقت ليزهر و ينشر عبيره في البيت، وقد يبقى صغيرا فلا يكبر، و لا يتحول إلى أولوية.
صديقتي، ليس عيبا أن ترفضي الأمومة، فلا تشعري بالذنب إن لم تتطور عندك هذه الأحاسيس،ولكن العيب هو أن تنجبي أطفالا فقط من أجل الإنجاب، أطفال محرومون من حنان الأم، أطفال يعيشون حالة عوز عاطفي و نفسي، ويعانون الإهمال و الحرمان، بسبب أم غير ناضجة سلوكيا وفكريا وعاطفيا.
لا تستطيع كل امرأة أن تصبح أما، فقد تلد الأم ولا تشعر بحب تجاه طفلها لذلك لدينا عيد الأم، كما لا يستطيع كل إنسان أن يكون شهيدا، لذلك نحتفل بالشهداء. الأمومة ليست غريزة متوارثة منذ الولادة، هي ليست موهبة ولا نعمة ولا مهارة آتية من الرب أو من قوى الكون الخارقة، هي بطولة تطورها المرأة وتخوض غمارها، فهي تضحية إنسانية نبيلة، أرقى أنواع النبل الإنساني.
اتفق علماء الاجتماع و علماء النفس بعد الابحاث والمشاهدات والاختبارات المعمقة والشاملة، أن شعور الأمومة هو شعور ناتج عن عمليات حسية معقدة، والتي تتأثر بعوامل نفسية واجتماعية وتربوية وثقافية.
إحصائيات السنوات الأخيرة في الغرب تظهر أن عدد النساء اللواتي يفضلن الزواج دون إنجاب في تزايد مضطرد، و يدعون أن الإنجاب تم لأسباب اجتماعية بحتة.
أما في الدول التي تعاني من مشاكل و أزمات فيما يخص حقوق المرأة، يمكننا القول أن النساء يجبرن على الأمومة تحت وطأة المجتمع، وفي الختام أود أن أقول أن لكل امرأة إرادة حرة ووعي كاف و مشاعر و رغبات تؤهلها للتصرف بحياتها وفق ما تريد وما تراه مناسبا لها
والأمومة استعداد عاطفي و فكري و نفسي، وهي أيضا رغبة و قرار تنبع من الإرادة الحرة وليست الغريزة.