عندما كنت صغيرة كانت والدتي مدرسة، وكذلك عماتي الاثنتين، كما كان والدي محاضر في الكلية العلمية المتوسطة، قبل أن يكمل دراساته العليا ويؤسس مكتبات عدة جامعات أردنية... كنت أرى أن التعليم مهنة سامية جداً، وخاصة عندما كنت أرى كيف تتعامل أمي مع طالباتها، لا أنكر أنني كنت في كثير من الأحيان أغار منهن بسبب علاقتها الطيبة معهن، وحرصها عليهن، وأحياناً إعطائها لوقتها ومجهودها لهن عندما نكون أنا وإخوتي في أمس الحاجة لها.
فهي كانت مدرسة في مدارس وكالة الغوث، وكانت المدارس تعمل بنظام الفترتين الصباحية والمسائية... فعندما كانت تداوم بالفترة الصباحية كانت تغادر المنزل قبل الساعة 6 صباحاً وتحملنا ونحن نيام لنكمل نومنا في منزل جدتي، ونفتح أعيننا ولا نجدها أمامنا. وعندما تداوم في الفترة المسائية كانت تصل إلى المنزل أحياناً الساعة 5 مساءً! فنشعر كأن يومنا قد انتهى دون أن نراها ونقضي وقتاً ممتعاً معها.
أتذكر أنني كنت أحسد زميلاتي في الصف عندما كن يتحدثن عن أمهاتهن، وعن وجبات الطعام اللذيذة التي يعددنها لهن، وكيف يساعدنهن في واجباتهن المدرسية... بينما أنا كنت أحياناً أصل المنزل فأجده فارغاً، لا أحد ينتظرني عند الباب سوى جدتي، وعندما أجوع كنت آكل لوحدي من طبخ جدتي في معظم الأوقات، وأحياناً تكون أمي قد أعدت نصف الطبخة وتركت لي ورقة كتب عليها طريقة إعداد الأرز لأصعد فوق كرسي لأتمكن من الوصول للموقد وأعده، وعندما تصل والدتي نأكل معاً. وعندما تكون في الفترة الصباحية تكون قد وصلت قبلي بقليل ولم تنتهِ بعد من تنظيف المنزل وإعداد الطعام.
لم تكن أمي سعيدة لأنها كانت دائماً تشعر بالذنب لتقصيرها في حقنا، وعندما تقاعدت حاولت تعويض كل ما كان ينقصنا فشعرنا بالفرق العظيم بين الأم العاملة وغير العاملة... فكانت تنتظر عودتنا من الجامعات على باب المنزل، وتستقبلنا بابتسامة دافئة بدل العصبية التي اعتدنا عليها طوال السنوات السابقة، وكانت تسألنا ماذا نشتهي من الطعام لتعده لنا، وتسأل عنا وعن ما حدث معنا خلال يومنا وتساعدنا في دروسنا.
فمن تجربتي الشخصية مع والدتي... لم تستطع أمي أن تتقن جميع الأدوار التي كانت موكلة لها كزوجة وأم وموظفة، وبالرغم من سكننا قي نفس البناية مع جدي وجدتي، وبالرغم من وجود مساعدة منزلية أحياناً إلا أننا أحسسنا بأن هناك أمور كثيرة كانت تنقصنا عن أقراننا، وكنا نفتقد أمي في اجتماعات الأهالي في المدرسة وفي لحظات كثيرة كنا نحتاجها فيها.
لكن هذا لا يعني أن كل النساء العاملات لا يستطعن الجمع بين عملهن ودورهن كأمهات مسؤولات عن تربية أبنائهن؛ فهناك الكثير من النماذج من حولي لزميلات وصديقات استطعن أن ينجحن بهذا، كل ما في الأمر أنه عائد لشخصية المرأة وتنظيمها لوقتها وإيمانها بقدرتها على أن تكون أماً فاضلة وموظفة مجتهدة في آنٍ معاً.
كما أن هناك الكثير من الخيارات المتاحة هذه الأيام والتي جعلت عمل المرأة أسهل بكثير من قبل، كإمكانية العمل من المنزل، والعمل بدوام جزئي، كما أن الكثير من السيدات يخترن أن يبدأن بمشاريعهن الخاصة؛ فيصبحن هن سيدات أنفسهن، إضافة إلى توفر الحضانات في بعض المؤسسات الكبرى لأطفال السيدات العاملات في هذه المؤسسات...