هناك أمر حدث معي في طفولتي وأثر علي كثيراً... كنت صغيرة جداً وكان يسكن بجوارنا رجل مسن كان مقعداً في العام الأخير من حياته، وكانت تقوم بناته على خدمته، وأحياناً كانت إحدى بناته تصرخ به وتوبخه كثيراً عندما تتسخ ملابسه بسبب عدم قدرته على الذهاب للحمام لقضاء حاجته، وفي يوم من الأيام استيقظنا على صراخ الفتيات لوفاة والدهن. كانت هذه هي أول مرة يتوفى فيها شخص أعرفه شخصياً وأحبه كثيراً، ومن قسوة المشهد كانت أمي وجدتي تحاولان منعنا أنا وأخي من الاقتراب من الشباك وكانتا تغلقان آذاننا حتى لا نسمع البكاء والعويل، ثم أخذتنا أمي مسرعة وخرجت من المنزل لئلا نتأثر بما حصل أمامنا، ولكن هذا الموقف أثر بي كثيراً حتى الآن، فما زلت أستذكر ما حصل وأسمع الصراخ وأستشعر معنى الموت الحقيقي، وما زاد الطين بلة هو أن بنات الفقيد رفضن إخراجه من المنزل يوم وفاته ومكث في المنزل لأيام وكنا نشتم رائحة الجثة التي ما زالت عالقة في أنفي حتى الآن!

منذ ذلك اليوم وأنا أخاف على كل من حولي من الموت، حتى أنني كنت أشعر بالحزن على زميلاتي في المدرسة اللاتي كانت أمهاتهن كبيرات في السن لأنني أخاف أن يفقدنهن قريباً، كما كانت تراودني أحلام مزعجة تذكرني بما حدث... إلا أنني تمكنت من تخفيف هول ما حدث على نفسي عندما كبرت وتعمقت في القراءة عن كل ما يخص النفس البشرية والتنمية الذاتية والذكاء العاطفي، فهذا الأمر زاد وعيي بذاتي وساعدني كثيراً على تخفيف هول الصدمة التي تعرضت لها في الماضي. لن أبالغ وأقول أنني قد تعافيت تماماً، ولكنني على الأقل تخلصت من الكوابيس التي كانت تلاحقني وأدركت أن الموت حق علينا وأن الحياة تستمر لمن هم حول الفقيد وأن الحياة قد تأخذ منا الجميل لتهدينا الأجمل كما فعلت بنا عندما أخذت جدتي وأعطتنا بعد عدة أشهر ابن أختي "عمر" الذي هو أغلى إنسان على قلبي؛ فالأرض لا تتسع للجميع، وسنة الحياة في الأخذ والعطاء.

سأحاول أن أفيدك ببعض الأمور التي قد تساعدك على تخطي الأحداث السيئة التي حدثت معك في طفولتك من خلال خبرتي في التنمية الذاتية وتجربتي التي تعرضت لها...

- عليك أولاً أن تتعمق في الحديث مع نفسك وتكتشف الحدث الذي سبب لك آلاماً في الماضي وما زال أثره موجوداً فيك حتى الآن، اجلس مع نفسك كما يفعل الاختصاصي النفسي واسأل نفسك كيف أثر هذا الحدث على شخصيتك ومظهرك الخارجي وقراراتك التي اتخذتها ومشاعرك واختياراتك. فبالنسبة لي فقد جعلني هذا الحدث متعلقة بأهلي بشكل مبالغ فيه، وقد رفضت الكثير من الفرص المهنية بسبب الدوام الطويل عندما كان ضغط الدم لدى أمي يرتفع كثيراً مع أنها لم تكن وحيدة!

- ابحث عن سبب ألمك، فليس الحدث هو السبب بل أفكارك واعتقاداتك، فلو كانت الظروف والأحداث التي تحدث معنا هي سبب آلامنا لتأثر بها جميع الناس الذين يمرون بها وبنفس المقدار. فالحدث الذي حصل معي في طفولتي مثلاً قد شهده أخي أيضاً لكنه لم يتأثر به كما تأثرت أنا. حاول أن تجد السبب... فإن تركك والداك مثلاً عندما كنت طفلاً وعندما بحثت في سبب ألمك وجدت أن إحساسك بالوحدة وخوفك من أن تبقى وحيداً هو ما سبب لك هذا الألم الكبير فحاول أن تحط نفسك بالأشخاص الذين يحبونك ويدعموك لتخفف شعور الوحدة هذا.

- استرجع هذا الحدث وكأنه يحصل أمامك الآن من جديد واسمح لنفسك أن تتألم وتبكي وتصرخ وتخرج كل الشماعر التي قد تشعر بها بسبب ما حدث، ومن ثم اكتبها على ورقة ومزقها لقطع متناهية في الصغر، تخيل أنك تتخلص من مشاعرك السلبية ومن آلامك مع تمزيقك للورقة. كما أن فضفضتك لشخص قريب منك سيساعدك كثيراً.

- اقضِ على وقت الفراغ... فـ "الفاضي بيعمل قاضي"، وقت فراغك هذا سيجعلك تقاضي نفسك وتحاسبها وتكرهها بسبب اجترارك للحدث الماضي.

- مارس الأمور التي تشعرك بالسعادة وكذلك التمرينات الرياضية: فعندما يفرز جسمك هرمونات السعادة سيقل إحساسك بالذنب والكره والألم وتقل مشاعرك السلبية لأن الخير يهزم الشر دائماً وليس فقط في الأفلام، بل حتى داخل أجسادنا.

- مارس تمرينات التنفس والتأمل: فاستنشق الهواء الطلق يومياً، وافتح نوافذ منزلك ودع الشمس تدخله، وحاول أن تكثر من زياراتك للحديقة المجاورة أو على الأقل اجلس في حديقة منزلك أو على الشرفة واستنشق الهواء الطلق من أنفك ببطء لخمس ثوانٍ وتخيل أنك شخص متحرر من ماضيك ومحب للحياة، ثم أخرجه من فمك وكأنك تطفئ شمعة لسبع ثوانٍ  وتخيل أنك تخرج مع الزفير كل ما يؤلمك ويضايقك.

- قوِ علاقاتك الاجتماعية وأحط نفسك بالإيجابيين.

- سامح نفسك واعلم أنك تستحق أن تحيى الحياة وتستمتع بها واعلم بأن الماضي قد ذهب ولا يمكننا التحكم بما حدث معنا في طفولتنا، ولكننا نستطيع أن نتحكم بالحاضر.

كلنا نعيش في هذه الحياة، والإنسان الأسعد هو من يعرف أنها مليئة بالصعوبات وأن الطريقة الوحيدة ليعيش بسلام هي أن يترك الماضي وراءه ويستمر في رحلته بابتسامة.

رحلة سعيدة أتمناها لكم على متن قطار الحياة



المصدر: